ترامب.. ما الذي يمثله.. وأين سيأخذ بلاده والعالم خلال السنوات الأربع المقبلة؟

التقاط
حجم الخط

 

في منازلة رئاسية تاريخية فاز دونالد ترامب وأصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة. فمن هو هذا الرجل وما الذي يمثله وأين سيأخذ بلاده والعالم في السنوات الاربع القادمة؟

هذه الأسئلة وغيرها ستبقى تؤرق من يسعى الإجابة عليها، لا لكونها تُعنى برئيس الدولة الأقوى فقط وإنما لكونها أيضا مؤشرا على ما ستكون عليه العلاقات الدولية والعالم بأسره في السنوات القادمة. ما تسعى اليه هذه المقالة هو التمهيد للإجابة على هذه الاسئلة عبر تسليط الضوء على المنطلقات الفكرية والسياسية التي سمحت بانتعاش ما يمكن تسميته بالترامبية في الولايات المتحدة الامريكية. بعض التحليلات تذهب الى حد الاعتقاد ان ما يمثله ترامب من قيم وفكر وتصورات وما سيترتب عليها من سياسات هو امر غريب في التجربة الامريكية ومناقض ومخالف لتقاليدها المنبثقة من مبادئ الحرية والعدالة والمساواة والتي جعلت من الولايات المتحدة الدولة الديمقراطية الأنقى في العالم.

هذه المقالة تتبنى وجهة نظر مغايرة تماما مفادها ان صعود ترامب الى سدة الرئاسة في البلد الاقوى في العالم تبرره ثلاثة اعتبارات: طبيعة الدستور الامريكي وميله الطبقي؛ رواج وشيوع ثقافة اولوية القطاع الخاص على الدولة؛ وتفاقم إشكاليات النظام الرأسمالي المسيطِر كونيا. وعليه، ترى هذه المقالة ان ظاهرة ترامب (وما يرافقها من فكر وقيم وتصورات) هي بجوهرها تعبير منسجم تماما مع منطلقات ومحددات التجربة الامريكية وهي لا تشكل انزياحا أو شذوذا عن القواعد السياسية والفكرية المؤسِّسة للولايات المتحدة الامريكية والتي صاغها الدستور الامريكي وتميل لصالح أصحاب الثروة والمال على حساب الطبقات والفئات الأخرى من الشعب الامريكي. ان ترامب وما يمثله من فكر وقيم سياسية وثقافية وأيديولوجية له جذور عميقة في تاريخ وثقافة النخبة الحاكمة، التي هي أقرب لأن تكون نخبة ارستقراطية منها ديمقراطية، منذ تأسيس الولايات المتحدة وان "ظاهرة ترامب" هي تعبير معاصر عن معضلة قديمة مرّت بها التجربة الامريكية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وفي ذلك اشارة الى عمق الفجوة بين مبادئ ومُثل الديمقراطية التحررية الخلاصية (التي نص عليها الدستور وانبثقت من أفكار منظري العقد الاجتماعي خاصة لوك وروسو) من جهة، وبين واقع الحال المتمثل بتعاظم ازمات النظام الرأسمالي وتعاظم جشعه وما يرافق ذلك من تصدعات داخلية تؤدي الى الإفقار والتهميش والإقصاء لشرائح اجتماعية واسعة، ومن حروب وهيمنة على الآخرين خارجيا.

كما يمكن فهم بلوغ ترامب سدة الرئاسة كتعبير عن اضطراب في صفوف النخبة "الارستقراطية" المتنفذة لخشيتها من ان تقود الاهتزازات السياسية والاقتصادية التي يشهدها النظام محليا وكونيا الى زعزعته وعدم استقراره، ما يتطلب صيانته وتحصينه من غضب ضحاياه الرافضين لسياساته في الداخل والخارج.

أولا: جاء صعود ترامب وما يمثله من توجهات طبقية منسجما مع انحياز الدستور الامريكي لفئتين: الأثرياء والأقليات الدينية. فالأغنياء هم تلك الفئة الاولى التي انحاز لها الدستور الامريكي مبكرا (على الرغم من جهود وليام جفرسون الملقب بأبي الدستور الامريكي لجعلِه أكثر تعبيرا عن عامة الناس) ، حيث أصر مصمموا الدستور على توفير الحماية القانونية القصوى للأقلية الغنية مقابل الأكثرية الفقيرة. وقد كان مسوٍّغ ذلك في حينه ان الأغنياء، وبحكم ما لديهم من ملكية، هم أكثر قدرة على الحكم وادارة الشأن العام بصيغة تضمن تكريس التوازن الاجتماعي والاقتصادي، كما انهم أقل جنوحا للفساد والانحراف كونهم أصحاب خصال مُثلى تجعل منهم مواطنين فضلاء أكثر من غيرهم من الناس.

لتعزيز موقعهم يلجأ الأغنياء الى تقديم تنازلات للطبقة الوسطى، لكن دون تعريض ثرواتهم ونفوذهم لأي ضرر للفصل بينهم وبين الغالبية من الناس التي هي غالبية من الفقراء المهمشين (عبيدا وهنودا وفقراء البيض). ولإضفاء المتانة والمشروعية على سلطتهم قام في حينه مهندسو التجربة الامريكية بنحت مفردتيْ الحرية والمساواة وتضمينها بالخطاب السياسي للثورة الامريكية لزجّهم بها في وجه انجلترا، لكن مع الحفاظ على العبودية واللامساواة.

من الملفت هنا ان أقطاب الثورة الامريكية جاءوا من الطبقة الكولونيالية الحاكمة، فأبو الثورة الامريكية جورج واشنطن كان الأكثر ثراء في امريكا في ايامه، إضافة الى آخرين يشبهونه ثراء مثل جون هانكوك وبنجامين فرانكلن وتوماس جفرسون وغيرهم. في ذات الوقت، بينما بقيت جماعات اخرى كالعبيد والخدم والنساء ومن لا يملكون دون تمثيل أو حماية، بينما أعطيَ عظيم الاهتمام لأصحاب الثروة والملكيات الكبيرة وأصحاب الجاه والنفوذ الذين احتكروا السلطة. وقد اقتصر حق الانتخاب بالولايات في تلك الفترة على المالكين فقط حيث استثنيَت النساء والهنود والعبيد، كما بقيت المناصب العليا بقبضة الأثرياء وبعيدة عن تأثير العامة من الناس.

بذلك، ضمِن الدستور فصلا فولاذيا بين الطبقة الغنية الحاكمة من جهة، والطبقات الفقيرة المهمشة من جهة أخرى. ومن الدلالات الاخرى على اهمية الثروة في أذهان مهندسي التجربة الامريكية تضمينها مسألة الملكية في القيم الناظمة للدولة الامريكية والتي تضمنها الدستور الامريكي (1789) حيث اصبحت: الحياة والحرية والملكية، بعد أن كانت: الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة عندما وردت في إعلان الاستقلال (1776).

ثانيا: نُظِر الى ترامب من قبل الكثير من فقراء البيض وغيرهم كمرشح لإحداث التغيير في حياة البلاد ومواطنيها خاصة بعد ان قدّم نفسه كنقيض للسلطة الحاكمة وما تمثله من ميول وانحياز لجماعات المصالح وللقوى المتنفذة. وقد كَمَن جزء هام من جاذبية ترامب في حقيقة قدومه من عالم القطاع الخاص، من عالم المال والأعمال وما يرافقه من حظوة وشهرة ونجومية، ذلك العالم الذي يحتل مكانة خاصة في وعي الامريكيين منذ تأسيس الولايات المتحدة وانحيازها لمبادئ الرأسمالية والملكية الخاصة والحرية الفردية والمبادرات الريادية ومحدودية دور الدولة وغير ذلك من مرتكزات. وقد تكرّست هذه المبادئ طوال تاريخ الولايات المتحدة. وبدا ذلك جليا في مطلع القرن العشرين عبر شعار شهير جاء فيه "ما هو جيد لشركة فورد هو جيد أيضا للولايات المتحدة".

ان مغزى هذا القول هو ان الصيغة المثلى لإدارة شأن واشنطن هي تلك الصيغة الاكثر قربا لنمط ادارة مؤسسات القطاع الخاص، لأن الافراد القادمين من القطاع الخاص اكثر مهارة وقدرة من الطبقة السياسية في ادارة الشأن العام الخادم للمواطنين، وذلك كونهم أكثر تنافسية ومبادرة ومبادأة وحافزية وسرعة وفعالية في اتخاذ وتنفيذ القرارات، على العكس من مؤسسات الدولة المُثقلة ببلادتها.

وفق هذه القاعدة - قاعدة أفضلية القطاع الخاص على مؤسسات الدولة - فإن نجاح الدولة بسياساتها الداخلية والخارجية يُنظَر اليه أساسا من زاوية مدى اقتدائها بالشركات من حيث الآليات والأهداف والنتائج، دون أن يُنظر بجدية الى الفوارق الجوهرية بين هذين القطاعين المتباينين والى مستوى تعقيد العلاقة بينهما في كثير من الاحيان. هذا مكّن القطاع الخاص من تبوؤ مكانة هامة وحاسمة في ادارة الاقتصاد والمجتمع ومن ثم التأثير العميق بالسياسة داخليا وخارجيا، وذلك بحجة ان القطاع الخاص هو أكثر مهارة وكفاءة في توظيف الموارد واستغلالها وتوجيهها، وتحقيق النمو، ورفع مستوى المعيشة، واستقرار الأسعار وغير ذلك.

لا يعني ذلك بالطبع عدم وجود دور للدولة في النشاط الاقتصادي أو غياب ضوابط لعمل القطاع الخاص، حيث ان هناك دورا رئيسيا للحكومة ولكنه محدود ويتركّز في تنظيم العلاقة بين أطراف الإنتاج، وتوفير البيئة القانونية والمؤسسية الملائمة لتعزيز الكفاءة، وتحفيز القطاع الخاص على الاستثمار عبر سياسات مالية ونقدية وتجارية مختلفة. ان دور الدولة وتدخلاتها المختلفة في المجتمع لا ينبع من الخشية من القطاع الخاص وما يمكن ان يلحقه من أضرار بقدر ما هو خشية عليه من التقهقر والضعف كي يبقى ذلك الفضاء الذي لا معنى للدولة دون وجوده.

ثالثا: العنصر الأخير الذي لا بد من الالتفات اليه لفهم من أين جاء ترامب هو التآكل المضطرد في قدرة الولايات المتحدة على التعاطي بنجاح مع التحديات الداخلية والخارجية. داخليا، لا تزال التفرقة العنصرية تسيطر على المجتمع الأمريكي حيث سرعان ما تفشل أية محاولة لتوريتها عند الإعلان عن مقتل افريقي أمريكي على يد رجل شرطي أبيض، ما يتسبب بالاحتجاجات واقتراف أعمال العنف التي تهدد استقرار المجتمع كما يحدث في الكثير من الولايات في السنوات الاخيرة. فالعنصرية اليوم باتت طابعا مميزا للمجتمع الأمريكي الأبيض ضد الآخرين خاصة الافارقة الامريكيين، حيث تشير نتائج الانتخابات الرئاسية التي خاضها أوباما عام 2012، إلى تصويت الأفارقة الامريكيين بأغلبية كاسحة له، ما يعني ان الانتماء العرقي يسيطر على المواطن الأمريكي في قراراته الكبرى.

ويتضح حجم الهوة بين البيض وسواهم في مجالات أخرى كالجريمة مثلا، حيث أن ممارسة القتل ضد الافارقة الأمريكيين، وما يتلو ذلك من غضب في صفوفهم، ليس سوى تداعيات سطحية تُغلّف تداعيات اقتصادية واجتماعية أعمق ذات دلالة على تجذّر التمييز العنصري في المجتمع الأمريكي. فالتمييز العنصري ما زال يتعزز ويزداد حيث هناك اليوم شخص واحد من بين كل اربعة أفارقة امريكيين، وشخص واحد من بين كل ستة اشخاص من أصول لاتينية يعيشون في فقر شديد، مقارنة بشخص واحد من بين ثلاثة عشر شخصا من الأمريكيين البيض. وتأكيدا لذلك نأخذ مدينة شيكاغو، التي يشكل البيض أقلية فيها، حيث نجد ان ساكنيها البيض هم المجموعة الوحيدة التي شهدت في السنوات الأخيرة زيادة في الدخل بما يُقدر بنحو 52% ، مقارنة بـ13 % في حالة الافارقة السود، و15 % في حالة الإسبان.

وتتفق هذه النسب مع ارقام اخرى على المستوى القومي وتفيد بأن دخل الأمريكي من ذوي الأصول الأفريقية والإسبانية شهد انخفاضاً حاداً منذ عام 2000. من الواضح هنا ان التمييز في الولايات المتحدة يأخذ نوعين متداخلين: التمييز العرقي ويمكن ملاحظته في العمل والسكن والتعليم والصحة والخدمات الأخرى، والتمييز في الدخل حيث ان هناك أقل من 10 % من الأسر في المناطق التي تقطنها الأغلبية البيضاء تعيش في فقر، بينما هناك أكثر من 50 % من الاسر في المناطق التي تقطنها الأغلبية السوداء يعيشون في فقر.

إن جزءا هاما من التباين الاجتماعي والاقتصادي بين أحوال البيض وغيرهم، تعود جذوره إلى السياسات التي تبنتها الادارات المختلفة طيلة عقود وكرّست الانقسام العرقي والتهميش والإقصاء رغم الادعاء بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.

ان مجموع هذه الازمات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الامريكي جعلت من ترامب شخصا جذابا في عيون الناخبين الذين سئموا سياسات الحزبين الرئيسيين المنحازة لجماعات المصالح. فهناك قطاعات واسعة، خاصة من البيض الاقل تعليما والتي انتخبته بمعدلات عالية، قد وجدت نفسها تعاني من الفقر والتهميش بعد هجرة الوظائف عن بلداتهم لمناطق اخرى داخل الولايات المتحدة أو خارجها (خاصة للصين) في العقدين الماضيين.

بمعنى، ان هناك ملايين من المُفقرين والمهمشين في فيافي وبراري بنسلفانيا وميشيغان واوهايو ووسكانسون وغيرها من الولايات التي اختارت أن ترى بترامب كمنقذ وكمدشن لعهد جديد. فالحلم الامريكي القاضي بالرغد والرخاء والبحبوحة الاقتصادية بالنسبة لها لم يعد ملموسا، واستُبدِل بالبطالة والعوز والجريمة في الكثير من المناطق التي يقطنها السود واللاتينيون والآسيويون وغيرهم، إضافة الى الارتهان للبنوك لتأمين نفقات العيش من مأكل ومسكن وطبابة، ما يعني تعاظم القلق على الحاضر والمستقبل وتراجع مضطرد لـ"عظمة" البلاد.

في هذا السياق، لم يكن مفاجئا ان يُنظَر لترامب من قبل كثيرين كمنقذ للأمة وكمؤتمن على صنع غدها الأفضل، متأثرين به كرجل أعمال جنى المليارات وبشعاراته الانتخابية الناقدة للمؤسسة السياسية الحاكمة (المتمثلة بالحزبين الجمهوري والديمقراطي وجماعات المصالح والتأثير).

فمن وجهة نظرهم ترامب صاحب رؤية لتصويب مسار البلاد نحو الازدهار داخليا واستعادة الهيبة والاحترام خارجيا. ومن وجهة نظر ترامب ذاته فهو يرى بنفسه سياسيا من طراز جديد لا يخضع لأحد سوى قناعاته المنبثقة مما يسميه باستعادة عظمة الولايات المتحدة وذلك عبر معالجات مغايرة لتلك التي تبنتها الادارات الديمقراطية والجمهورية السابقة ، خاصة ادارة اوباما في السنوات الثماني الماضية.

وترتكز تلك المعالجات على تصويب علاقة واشنطن بالمواطن الامريكي وتشمل إلغاء أو تعديل سياسات اوباما الاجتماعية (خاصة نظام العناية الصحية المسمى اوباما كير) المنحازة للفئات الفقيرة والمتوسطة، وإصلاح نظام التعليم، وتخفيض الضرائب على المداخيل العالية لغرض إنعاش الإقتصاد وتوفير فرص عمل جديدة ورفع (أو تخفيف) الضوابط والقيود امام الشركات لتتمكن من المنافسة عالميا....الخ.

أما خارجيا فتشمل المعالجات تبني مقاربات جديدة لإدارة الشؤون الدولية بشكل مختلف عن السابق في عالم تسوده الكثير من الصراعات والمنافسات الضارية، ما يتطلب حسب ترامب إعادة النظر بالاتفاقيات التجارية والامنية مع آسيا وأمريكا الجنوبية كاتفاقيتي «نافتا» و «ت بي بي» اللتان يعزي ترامب اليهما ما لحق بالاقتصاد الامريكي من أضرار ونال من هيبة الولايات المتحدة في العالم. ويضاف الى ذلك أيضا معالجة الصراعات الدولية والاقليمية انطلاقا مما يخدم مصالح الولايات المتحدة آنيا لكن دون ايلاء عظيم الاهتمام لانعكاسات ذلك على المدى البعيد.