في البدء كان الانقلاب وفي الأصل تبقى الانتخابات

صادق الشافعي
حجم الخط

في الرد على سؤال لماذا نعود للكتابة عن الانقسام، هناك دائماً نفس الجواب:
لأن الانقسام ما زال جاثياً فوق صدورنا، يتفاقم ويكتسب تعبيرات جديدة، ولا  بشائر ولا مقدمات لقرب انتهائه.
في هذه الأيام، يضاف إلى الجواب عاملان: الأول قانون التسوية الذي أقره كنيست الاحتلال ويشكل تطوراً نوعياً شديد الخطورة ضد كل المشروع الوطني الفلسطيني. والثاني الجدل حول الانتخابات المحلية المقررة والسموم التي ينفثها الانقسام في رفض البعض لها.
الحركة التي تنقلت خلال الأسابيع الفائتة بين جنيف وبيروت وموسكو ظلت بلا بركة. بقيت مستقرة في حدود ما تعودنا عليه، وفي هوامش الكلام المكرر، حمّال الأوجه وكثير مخارج الهروب والتملص.
مع الإقرار بوجود تفاوت واسع بنسب المسؤولية، فانه لا طرف فلسطينياً بريئاً تماماً من مسؤولية الانقسام، حتى لو كان ذلك بالصمت العاجز من قبل بعض القوى أو استقرارها في موقع ثانوي الفعل. حتى حركة الجماهير وقوى المجتمع المدني بكامل تنوعها، لا يمكن إعفاؤها من المسؤولية لضعف دورها وحراكها وتأثيرها.
بصراحة، فان البدء كان في انقلاب 2006، وأن المسؤول الأول عن الانقسام هو الطرف الذي  نفذ الانقلاب.
الانقلاب فرض بالأمر الواقع، انفصال قطاع غزة عن جسم النظام الفلسطيني/الكيان، رغم كل ما يمكن قوله عن هذا النظام/الكيان من ملاحظات وقصورات، وما يساق ضده من اتهامات.
والغريب ان من نفذ الانقلاب قام به وهو في موقع المسيطر تماما على الحكومة المركزية والممتلك لأغلبية مريحة في المجلس التشريعي المنتخب، بما يؤكد نيته إقامة الكيان المستقل، لا ينفي هذه الحقيقة، ولا يغير فيها جوهرياً، كل حديث عن مسؤولية الطرف الأساسي الثاني في طريقة معالجته للانقسام، واتهام البعض له بتوظيفه والاستفادة منه.
 لقد جرى فرض حقائق الأمر الواقع السياسية والإدارية والأمنية والعسكرية والتحكم بكل مقدرات الحكم ومفاصل ومقومات الحياة العامة والخدمات والمعابر في القطاع،  وجرى دفع الانقلاب نحو التحول إلى كيان سياسي ندّ ومواز للنظام/الكيان الفلسطيني القائم (منظمة تحرير وسلطة وحكومة).
 نتج عن حقائق الأمر الواقع هذه، المنطق الذي يحكم علاقة الطرف الذي نفذ الانقلاب في تعامله مع النظام/ الكيان السياسي الفلسطيني القائم بكافة تعبيراته، كندّ ومواز، وليس مثلا كتنظيم معارض ذا حجم ودور مميزين يريد أخذ ذلك بالاعتبار في التعامل معه.
بهذا المنطق، فإن هذا الطرف لا يقبل منظمة التحرير، ولا يقبل الانضمام لها وينادي بإعادة بنائها، ويناور بإمكانية الانضمام لها اذا ضمن حصة 40% من عضوية المجلس الوطني. وهو لا يقول بحصوله على هذه الحصة عبر انتخابات عامة يصرّ على إجرائها، بل يريد أن تضمنها له التنظيمات الأُخرى عبر مساومات ومحاصصات كوتا التوافق البغيضة. (في موقف شديد الدلالة على رؤيته للانتخابات بشكل عام).
 وبهذا المنطق فان هذا الطرف لا يعترف بولاية الحكومة المركزية على قطاع غزة ومسؤوليتها عنه سياسياً وقانونياً وإدارياً وحياتياً.
هو يقبل بدور لها فقط في حدود تحميلها مسؤولية توفير الخدمات لقطاع غزة ومواطنيه وتوفير كلفتها وإدامتها، وفي حدود توفير الموازنات اللازمة للصرف على الوزارات والأجهزة التي يسيطر عليها. وهو يحمّل الحكومة المركزية والسلطة بشكل عام، كامل المسؤولية عن أي نقص أو فشل في أي من الخدمات التي تقدم مثل الذي حصل مؤخرا في مشكلة الكهرباء. وبهذا المنطق أيضاً، لا يقبل ولا يعترف بأي تشريع او قانون او مرسوم أو قرار عام تتخذه الحكومة او الرئاسة حتى لو كان منسجماً تماماً مع النظام الأساسي وتفرضه ضرورات وطنية عامة.
آخر الأمثلة على ذلك رفضه قرار الحكومة المركزية بالتشاور مع الرئاسة، إجراء الانتخابات المحلية في أيار القادم. حجته في ذلك عدم شرعية تشكيل محاكم خاصة بالانتخابات، إضافة إلى رفضه قرار الحكومة إجراء الانتخابات قبل التشاور معه وأخذ موافقته.
أما المبرر المتصدر لرفضه، فهو مطالبته بتأجيل الانتخابات إلى ما بعد انتهاء الانقسام. إن رهن قبول الذهاب إلى الانتخابات، محلية أو عامة أو أي انتخابات أُخرى، بإنجاز المصالحة وإنهاء الانقسام أولاً، وهو مبرر مكشوف للتهرب من الانتخابات واستحقاقاتها.
إن من يتذرع بهذا المبرر كمن يضع العربة قبل الحصان ويهرب من حكم الجماهير إلى اجتماعات التوافق والمحاصصة التي تشبه اجتماعات مجمع الكرادلة، لكن بلا دخان أبيض يخرج عنها يعلن الاتفاق.
إن من يمتنع عن خطوة محدودة بحجم انتخابات محلية لن  يرحب ويقبل بخطوات أوسع تقود إلى انتخابات عامة وما تتطلبه من حكومة توافق وطني يشارك بها الجميع.
بصراحة أكثر فإن حال الانقسام وحالنا لن ينصلح، ولن نخرج منه إلا إذا:
 أولا، تحمّل من قام بالانقلاب وأسس بذلك للانقسام المسؤولية الأولى في إنهاء الانقسام وتقديم ما هو لازم وضروري لذلك. دون أن يعني ذلك إعفاء الآخرين من مسؤولياتهم.
وثانياً، أن تتم العودة إلى الانتخابات العامة لتكون هي الفيصل والحكم في تحديد الحجوم والمواقع ومن هو في موقع المسؤولية والقيادة على كل المستويات.
ان تغييب الانتخابات، بما هو اعتداء على حقوق الجماهير، يبدو كنوع من التواطؤ يشارك فيه الجميع بدرجات ونسب واثقال متفاوته وبخلفيات متنوعة.
والغريب أن هذا التواطؤ يتعايش، في تناقض عجيب، مع ارتفاع أصواتهم وتقدم مهاراتهم ومحسناتهم اللغوية في التغني بالجماهير وعظمة الجماهير ودور الجماهير وحقوقها.
كل حديث أو اتفاق مهما كانت درجة جديته وواقعيته، لا تكون العودة إلى الجماهير والاحتكام إلى الانتخابات العامة في مركزه وبشكل جاد جداً، هو لعب في الوقت الضائع، ومحاولات للتخدير تخدم استمرار الوضع القائم وتفاقمه.