ليأذن لى الدكتور محمود حمدى زقزوق وهو العالم والفقيه المترفع عن الدخول فى مماحكات مع شيوخ آخرين إلا عبر أسلوب شديد التهذيب راقى الحجة، ولمن أراد الارتقاء مع المنطق والحجة أن اقتبس بعضا من ضوء مبهر ذخر به كتابه الأخير "تأملات فى أزمة الفكر الإسلامى المعاصر – نظرة نقدية" حول موضوع الطلاق الشفوى وما يمثله من مقولات لا تستند إلى قرآن كريم وسنة صحيحة وإنما الى كتابات فقهاء هم فى نهاية الأمر بشر يخطئون ويصيبون وهم قالوا ذلك بأنفسهم عن أنفسهم .
والدكتور زقزوق يعرب وبوقار عن اعتقاد بضرورة تجديد الفقه كمقدمة حتمية لتجديد الفكر الدينى والخطاب الدينى وينقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده نقداً لمحاولات التقليد الأعمى فيقول “جعل الفقهاء كتبهم على علاتها أساس الدين ، ولم يخجلوا من قولهم أنه يجب العمل بما فيها ، فانصرفت الأذهان عن القرآن والحديث وانحصرت أنظارهم فى كتب الفقهاء على ما فيها من الاختلاف" .
ويقول د. زقزوق "فهل يعقل أن تكون الحلول التى توصل إليها الفقهاء السابقون – مع احترامنا لاجتهاداتهم التى كانت مناسبة لعصورهم – هى نفس الحلول لمشكلاتنا المعاصرة . والأمر الذى لا شك فيه أن آراء الفقهاء السابقين كانت وستظل مجرد اجتهادات تخطئ وتصيب ولم يدع مؤسسو المذاهب الفقهية أبداً أن ما يقولونه هو الحق المطلق فقد قيل للإمام أبى حنيفة “أن هذا الذى تفتى به هو الحق الذى لا مراء فيه ، فرد قائلاً : “لا أدرى ، لعله الباطل الذى لا مراء فيه .
ومن المأثور أيضاً عن الإمام الشافعى قوله رأينا هذا صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب” [صـ28] ويمضى د. زقزوق “أين نحن فى فقه الواقع الغائب عن أذهان الكثير من فقهائنا ، وأين نحن من فهم الواقع الحالى للمرأة. وهل المرأة اليوم هى نفس المرأة التى كانت فى عهد مؤسسى المذاهب الفقهية ؟ وأين الاجتهاد المتجدد الذى فتح بابه واسعاً صاحب الشريعة؟ وأين نحن من مقاصد الشريعة وجوهر الدين؟ والى متى نظل عالة على فقهائنا الأقدمين. [صـ39] ونقرأ الآن ما أورده د. زقزوق عن الطلاق الشفوى إذ يقول "أننا للأسف الشديد تركنا الاجتهاد ولجأنا للتقليد فى وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الاجتهاد أكثر من أى وقت مضى. والملاحظ أنه حتى يومنا هذا نجد فقهائنا حين يبحثون عن حل شرعى لمشكلة جديدة فإنهم يبحثون عن حل لها لدى بعض المذاهب الفقهية القديمة وفى بطون الكتب التى تم تأليفها فى عصور التراجع الحضارى للأمة الإسلامية، وأحدث الأمثلة على ذلك الطلاق الشفوى وهل يقع أم لا بد من الإشهار والتوثيق ويكون انتصار الأكثرية لوقوع الطلاق شفوياً ودون إشهاد أو توثيق التزاما بما جاء فى الكتب المشار إليها دون مراعاة للمشكلات الكثيرة التى تترتب على ذلك من هدم الأسرة وتشريد الأطفال وضياع الحقوق . ومنذ أكثر من قرن من الزمان عاب الشيخ محمد عبده على الفقهاء مسلكهم هذا وتمسكهم الحرفى بما جاء فى هذه الكتب على الرغم من اختلاف ظروف الزمان والمكان".
ويمضى بنا د.زقزوق وما دمنا نتحدث فى أمر المرأة والموقف التجديدى منها ومن حقوقها إلى موضوع آخر ختان الإناث الذى هو مجرد عادة وليس عبادة ، وإن كان ما ورد بشأنه من أحاديث كلها ضعيفة لاتقيم حجة ولا يعتد بها . ولكن أحد الشيوخ الإجلاء عندما بحث هذه القضية لجأ إلى البحث فى ذلك عما قاله السابقون وانتهى فى ختام بحثه إلى نتيجة مروعة فى هذا الصدد وهى ذات ما ذهب إليه بعض أصحاب المذاهب الفقهية من رأى يقول "و اتفق أهل بلد على عدم ختان الإناث فعلى الإمام أن يقاتلهم على ذلك" ويقول د. زقزوق إنه قد تحدث "مع شيخنا الجليل – رحمه الله وطيب ثراه – عن ضرورة الاجتهاد وعدم الوقوف عندما قاله السابقون فكان رده "عندما نكون مثلهم فى علمهم يحق لنا الاجتهاد وهذا أمرغير قائم فى عصرنا"، ويمضى د. زقزوق متخلصاً من الحرج إزاء شيخ جليل - رحمه الله . قائلاً "وأترك الرد على ذلك للشيخ محمد عبده رحمه الله فمن رأيه أن السبق فى الزمان ليس آية من آيات العرفان ، ولا معلياً لعقول على عقول . فالسابق واللاحق يستويان فى التمييز والفطرة ، وهناك إمكانات متوافرة أمام اللاحق لم تكن متاحة لمن سبقهم، فاللاحق له من علم الأحوال الماضية واستعداده للنظر فيها والانتفاع بما وصل إليه من آثارها ثم ما يعرفه من جديد .
وليأذن لى د. محمود زقزوق والقارئ أيضاً أن أتداخل بسؤال شديد الخطر . وهو يتعلق بما أشار إليه المؤلف عن "فقه الواقع" فالواقع الآن فى مصر أن هناك قانوناً ملزماً للجميع ويعاقب بالسجن كل من مارس عملية ختان الأنثى هذا فى زمن يتهدد مصر خطر داهم وإرهاب متأسلم وجماعة إرهابية يمكنها أن تشهر الحرب على المجتمع وعلى مستقبله متسلحة بهذه الفتوى . فتكون كارثة تلم بنا جميعاً . ثم يأتى د. زقزوق ليذكرنا بقول شهير لابن القيم "من أفتى الناس بمجرد النقل من الكتب على اختلاف أعرافهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين" ويقول الإمام القرافى فى كتابه "الإحكام فى تمييز الفتاوى عن الأحكام" "ينبغى للمفتى إذا ورد عليه مستفت ألا يفتيه بما عادته أن يفتى به حتى يسأله عن بلده ، وهل حدث لهم عرف فى ذلك البلد أو فى ذلك اللفظ اللغوى أم لا" .
والآن أعود إلى أصل المسألة وهى الطلاق الشفوى وأتمنى أن يعاود الكثيرون الذين أفتوا بجوازه التزاما بما جاء حول هذا الأمر من فقه قديم .. وان نسعى معاً من أجل تجديد يسعى بنا نحو فقه جديد .
عن الاهرام