الدولة، الدويلة .. والسلطة !

حسن البطل
حجم الخط

هذا ترامب ذكّرني بشيئين: مثل شعبي فلسطيني؛ وزعيم عسكري ـ سياسي فرنسي. في المثل الشعبي: «أكبر ما في خيلك شد واركب». أما الزعيم فهو الجنرال ـ دي غول.
قبل انتخابه، وبعده بقليل، تعهد ترامب بحل صراع فلسطيني ـ إسرائيلي وصفه بأنه أعقد وأصعب وأطول القضايا، وأنه سيحاول حلحلته بـ «صفقة»، «أعلى ما في خيلك شد واركب»!
قبل أيام من استقباله نتنياهو، تحدث ترامب إلى صحيفة «إسرائيل اليوم»، ومما قاله: «لا صفقة جيدة إن لم تكن جيدة للطرفين» ودمج الحل بحل إقليمي!
لمّا كانت فرنسا تحت الاحتلال النازي، و»حكومة فيشي» الموالية، وقاد الجنرال ديغول جيوش «فرنسا الحرة»، ذهب إلى سورية لحشدها، وقال: «ذاهب إلى الشرق المعقّد بأفكار بسيطة».
لست متأكداً من ميول المليونير ترامب البروتستانتية الإنجيلية، الذين يقدر تعدادهم بـ50 مليون أميركي، لكن أوائل المستوطنين البيض، الأوروبيين البروتستانت، كانوا يصفون أنفهسم «نحن العبرانيون الجدد، وهذه «أرض الميعاد».. أرض كنعان!
ليس لهذا يمكن تفسير العلاقة الاستراتيجية الأميركية ـ الإسرائيلية بين أقوى الديمقراطيات في العالم، والديمقراطية الوحيدة في هذا الشرق «المعقد»، أو بين استيطان «العالم القديم» لـ «العالم الجديد» والاستيطان اليهودي على مراحل لأرض فلسطين، اعتماداً على «الطابو» الإلهي، أي روايات 3000 سنة من انبعاث «الهيكل الثالث» بصراع الـ100 عام على أرض فلسطين، أو 60 عاماً على إقامة إسرائيل في أرض فلسطين.
في مثل هذا الشهر، من العام 2000، تعرض رئيس الوزراء الفرنسي الاشتراكي، ليونيل جوسبان، بعد محاضرة له في جامعة بيرزيت، إلى الرجم بالحجارة، لأنه وصف حزب الله بمنظمة إرهابية.
جوسبان نفسه كانت له أبلغ الأوصاف للانتفاضة الأولى.. قال آنذاك إنها «قادمة من البعيد، وذاهبة إلى البعيد».
يمكن، في المقابل، وصف دولة إسرائيل بأنها قادمة من أساطير البعيد، ومن «ارضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل» فإلى «للأردن ضفتان أولاهما لنا وثانيهما لنا» إلى الاستيطان اليهودي من النهر إلى البحر، وأن «حل الدولتين» صار متقادماً (كادوك) كما وصف عرفات الميثاق الفلسطيني لتحرير فلسطين.
الانبعاث، أو التجدد، الصهيوني ـ اليهودي بدأ في أوروبا والدياسبورا، سعياً إلى «دولة يهودية» في فلسطين، وهذا قبل المحرقة النازية، أما الانبعاث الفلسطيني رداً على النكبة، فقد بدأ في الشتات والدياسبورا الفلسطينية من الجيل النكبوي الثاني.
السؤال الإسرائيلي، بعد خمسين عاماً من استكمال احتلال أرض فلسطين والاستيطان المتمادي فيها ولها، هو مكان وإمكان «حل الدولتين» أو موقع ديمقراطية إسرائيل وعلمانيتها الصهيونية بيهودية الدولة.
السؤال الفلسطيني، بعد خمسين عاماً من الاحتلال والاستيطان هو موقع فلسطين من دولة على 22% من أرض فلسطين، وموقعها من «دولة منقوصة»، أرضاً وسيادة، حسب تعبير أخير لنتنياهو موقع السلطة من هذا وذاك. إسرائيل فريدة وعجيبة الدول، وفلسطين فريدة الشعوب وشكل ثالث للدول.
صحيح أن بعض الفلسطينيين يعتبرون اسحاق رابين «شريكاً»، لكن فكرته عن فلسطين ما بعد أوسلو هي «كيان أقل من دولة». الآن، لا مقارنة بين ما كانه الاستيطان اليهودي زمن رابين، وحاله حالياً في زمن نتنياهو وبينيت وليبرمان، وميري ريغف!
إذا قال جوسبان: الانتفاضة ذاهبة إلى البعيد عن الانبعاث الفلسطيني، فقد أضحت فلسطين حقيقة سياسية دولية، بغض النظر عن تداعيات ما بعد الاجتياح الإسرائيلي 2002 الذي ألغى أمنياً تقسيم مناطق السلطة إلى (ا.ب.ج) والحديث الإسرائيلي عن ضم منطقة (ج) بدءاً من الكتل المختارة إلى إلغاء الحل الدولي بـ»حل الدولتين»، أو «سياسة المراحل» اليهودية المنسوبة إسرائيلياً للفلسطينيين، والممارسة إسرائيلياً، للوصول إلى الضم، دون حقوق مواطنية في دولة واحدة، أو بحقوق متساوين أكثر لليهود ومتساوين أقل للفلسطينيين. الأغيار في خدمة اليهود!
المفارقة التي تضرب على وترها إسرائيل، هي أن الدولة العربية القطرية تنفرط وتتفكك بينما يسعى الفلسطينيون إلى دولة، فإن الربيع العربي تحول إلى صراع إسلامي ـ إسلامي أو سني ـ شيعي، أخطر من الانقسامات الإسرائيلية بين الصهيونية العلمانية ودولة يهودية، أو الاشكناز والسفاراد في إسرائيل.
في الفترة الأخيرة، كتب الزميل عبد الغني سلامة حلقتين عن فلسطين ما قبل أوسلو وما بعدها، وزميل آخر هو أكرم عطا الله حاجج بأن ما قبل أوسلو كان أحسن مما بعدها، مستنداً إلى وضع اقتصادي كان أحسن، وإلى انخفاض الخصوبة الفلسطينية، وغاب عن باله أن الانتفاضتين الأولى والثانية حصلتا في وضع شعبي اقتصادي أحسن للفلسطينيين.
في المقابل، كتب الزميل صادق الشافعي أن إنجازات السلطة تستحق التقدير، مستشهداً بوقائع وأمثلة لا حصر لها.
هؤلاء الزملاء ليسوا من العائدين من المنفى بعد أوسلو، شأنهم شأن د. علي الجرباوي، الذي كتب عن خمسة خيارات فلسطينية بعد رئاسة ترامب، آخرها وأصعبها هو تسليم مفاتيح السلطة، والعودة إلى م.ت.ف، وهي وجهة نظره قبل ترامب وقبل الحكومة الأكثر يمينية في إسرائيل.
صار متعذراً تجديد شباب م.ت.ف في هكذا وضع عربي مفكك، كما أن عملها في الأرض المحتلة لن ينجح إذا صارت حركة حقوق مدنية.
كان تطور الكفاح المسلح الفلسطيني وصموده خارج الحسابات الإسرائيلية، وكانت الانتفاضتان الأولى والثانية خارج التوقعات الإسرائيلية، والاحتجاجات الشعبية الحالية لم تخمد، واحتمالات تطور الوضع الفلسطيني يبقى خارج الحسابات الإسرائيلية.
فلسطين صارت مركز الثقل في العمل الفلسطيني على غير صعيد، وهذا لم يكن الحال قبل أوسلو. من يتحمل القمع العربي في المنفى يتحمل أكثر القمع الإسرائيلي في البلاد!
قبل الانبعاث الفلسطيني قال شاعر فلسطيني في إسرائيل «في صحونكم بقية من عسل». الآن لدينا عسل أكثر، ولو كان مذاقه مراً علينا.. وعلى إسرائيل.