لطالما كنا نسمع المقولة التي تقول، إن الاقتصاد ما هو إلا سياسة مكثفة، دون أن نمحص معناها، كذلك طالما اقتنعنا بأن السياسة ما هي إلا فن إدارة المصالح، وأن ليس هناك فيها من ثوابت أو قيم أو أخلاق، بل هناك مصالح ثابتة، وعادة ما تكون المصالح اقتصادية بالدرجة الأولى.
ما حدث ويحدث منذ عقد ونصف في المنطقة العربية من صراعات داخلية / خارجية، تمنح مصطلحات السياسة والاقتصاد معناها الحقيقي الواضح، ففي العراق وسورية بالتحديد، تظهر صراعات القوى الداخلية / الخارجية بأوضح صورة، وذلك لأن كلاً من العراق وسورية دولتان عربيتان مركزيتان في العالم العربي، لهما تاريخ وثقل اقتصادي / سياسي، ولعله ليس أمراً دون معنى أن يكون كل من العراق وسورية مركزاً لأهم دولتين عربيتين / إسلاميتين، هما دولتا العباسيين والأمويين. بعد أن كان القطران العربيان يمثلان نموذجاً لعلاقة العرب بجيرانهم، حين كان العرب ضعفاء، عبارة عن قبائل متناحرة، إلى أن جاء الإسلام ووحدها وجعل منها دولة قوية، كان عرب المناذرة في العراق، حلفاء أو حتى عملاء لأكاسرة الفرس، فيما كان الغساسنة في سورية حلفاء أو عملاء لقياصرة الروم البيزنطيين، وكان دور ومهمة كل من المناذرة والغساسنة أن يثبتوا سيطرة الفرس والروم على قبائل الجزيرة العربية.
الدولة العربية / الإسلامية عكست الآية كما يقولون، بحيث صار الفرس والترك مسلمين، ضمن رعايا الدولة العربية / المسلمة، لكن الأيام دول بين الناس، أما التاريخ فيتحول إلى دروس وعبر، فيما تظل الجغرافيا / السياسية تمثل ثابتاً لا بد من أخذه بعين الاعتبار لكل من يريد أن يقرأ الأحداث السياسية أو أن يعمل في الحقل السياسي.
رغم أن التغيير الذي حدث في المنطقة والذي بدأ بإسقاط نظام صدام حسين في العراق وشهد ذروته بما سمي بالربيع العربي، تأثر كثيراً وبشكل حاسم بنتيجة الحرب الباردة، إلا أن التنفيذ على الأرض تأثر كثيراً بعاملين: الأول _ طبيعة وشكل المكونات المجتمعية، الإثنية والطائفية للدول التي تم فتحها في سياق ذلك الربيع السياسي، والثاني بطبيعة الدول الإقليمية ومواقفها السياسية تجاه الشرق (روسيا) والغرب الأوروبي / الأميركي، ولعل ما يؤكد صحة ما نذهب إليه نموذجان: أولهما إيران التي كانت وما زالت تعتبر نفسها عدواً للغرب الأوروبي / الأميركي، إلا أنها تحالفت معه من تحت الطاولة في العراق لإسقاط صدام حسين، وهي بعد ذلك تعتبر داعماً وراعياً مشتركاً مع الولايات المتحدة، لنظام الحكم الشيعي المقيم في المنطقة الخضراء، والذي نشأ بعد إسقاط صدام عبر إياد علاوي، إبراهيم الجعفري، نوري المالكي وحيدر العبادي.
ثانيهما أكراد العراق الذين رغم أنهم سنة إلا أنهم تحالفوا مع شيعة العراق ضد سنته، لأنهم أولوا الأهمية بالدرجة الأولى للباعث القومي / الكردي، فيما انقسم عرب العراق على أساس طائفي بين سنة وشيعة.
تتداخل المصالح والتعقيدات إذاً، كذلك تعود طموحات قديمة إلى الواجهة، لتظهر الأهداف الحقيقة للدول الإقليمية والدولية مما يسمى بفتح المجتمعات العربية، فدولة مثل ألمانيا، ما زالت ماكنة الاقتصاد تدور فيها، لكنها تعاني من كونها دولة شائخة، تحتاج إلى بشر أصحاء وشباب، استفادت من الحرب في سورية بلجوء أكثر من مئة ألف شخص حتى العام 2015، وحين اكتفت بدأت المعارضة الداخلية ضد المهاجرين إليها لذا صارت لها مصلحة بالحل السياسي، روسيا لها مصلحة في تأمين تصدير غازها للسوق الأوروبية، أما تركيا فإن نظامها الإسلامي وجد في سنة العراق أولا وسنة سورية ثانياً رصيداً مؤيداً له في المستقبل داخل صناديق الاقتراع، لذا فتح أبواب بلاده، وسهّل إجراءات إقامة العراقيين والسوريين ومن ثم منحهم الجنسية.
وكان في وقت سابق هدد معارضيه من الأتراك ممن يعملون في مؤسسات الدولة، خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، باستبدالهم بنحو ثلاثة ملايين سوري لجؤوا إلى تركيا بسبب الحرب الداخلية في بلادهم.
آخر ما خرج عن رجب طيب أردوغان هو إعداده لمشروع قانون للتجنيد الإجباري الذي سيشمل 800 ألف سوري، لا أحد يعلم من سيقاتل بهم، لكن ربما يبدأ الأمر بإعدادهم ليكونوا "جيشاً حراً" مثلاً، لتحرير شمال سورية من نظامها لصالح إعادة نظام الحكم العثماني أو حتى فيما يشبه حكومة فيشي الفرنسية التي كانت عميلة للألمان أيام احتلال ألمانيا لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.
أياً يكن الأمر، فإن هناك قوى بالمقابل تقاتل مع إيران كما لو كانت قوة جاءت من بين طيات التاريخ _ كما لو كانت قوات المناذرة _ مثل الحشد الشعبي وحتى حزب الله، أما جيش السخرة الذي ينوي أردوغان أن يشكله بقوة قانون الخدمة العسكرية الإجباري فيذّكر بوجود بعض العسكريين العرب في جيش الاحتلال الإسرائيلي أو بالدرك الفرنسي أيام احتلال فرنسا لسورية، أو حتى بجيش السخرة حين كان الباب العالي في الأستانا يجبر الرجال العرب على الانخراط في الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى، وكان كثير منه يموت جوعاً أيام "السفر برلك" أو من الأمراض أو في الحرب التي لا ناقة له فيها ولا جمل، وهو أولاً وأخيراً يقاتل في حروب ليست له كعربي مصلحة فيها، بل تجري من أجل تحقيق مصالح الآخرين، تركيا، فرنسا، روسيا، إيران، أميركا أو سواهم.