هذه هي الحرب الثالثة على غزّة . والحرب تُعَرّي أهلها . وفي الحرب نصبح أُناساً آخرين . وما زلنا في هذه المدرسة ، التي تحوّلت إلى نُزلٍ كبير يضمّ أكثر من عشرين أُسْرة لاذت بها ، باعتبارها مدرسةً تابعةً لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الدولية ( الأُونروا) ، وهذا قد يجعلها في منأى عن القصف والخسف والاستهداف.
لم يعد لدينا شموع لنوقِدها داخل الغرف ليلاً ، وربّما لم نعد بحاجة إليها ، فوَميض قصف الطائرات ، الذي يخبز العمارات والورش والمشافي ، كافٍ لأنْ يُحيلَ الليلَ إلى نهارٍ جهنّمي.
ولم يتبقَ الكثير من الطعام ، غير صناديق البصل والبطاطا وأكياس الجزر ورُزَمِ الخبز الذي تيبّس . أمّا الماء ، فقد تمّ قصف الخزّان الكبير ، ولم يتبقَ لدينا سوى ما احتوته الخزّانات الصغيرة الواقعة فوق حمّامات المدرسة ، لهذا فإن مَن يدخل ، لقضاء حاجته ، عليه ألا يستعمل الماء ، بل يكتفي بالمناديل الورقية ، التي نفدت .. فراحوا يستعينون بقطع القماش الممزّقة.
وعندما كانت الطائرات تئزّ وتخترق الأجواء ، وتترك خلفها عواميد العجاج الأسود والغبار والدخان والدمار والركام والجثث المتناثرة ، كنّا نتجمّع حول بعضنا البعض ، كأننا بالتصاقنا والتحامنا نحمي أنفسنا من حمولة الجحيم . وكان من الطبيعي أن تنام النساء في غرف على المقاعد أو على فِراش خفيف ، فيما ينام الرجال في غرفٍ أخرى وفي الممرات .. هذا ، إذا استطاعوا أن يناموا ! فلا شاي ولا قهوة ولا سجائر ، إضافة إلى الخوف الذي يُهَجِّر النّعاس .
ولا أدري مَن الذي اقترح على نزلاء المدرسة فكرة صِلة الأرحام ! ؟
إذ اجتمع الرجال بعد أن أخرجوا الأطفال والفتيان إلى الساحة ، وعقدوا اجتماعهم الأوّل ، الذي تداولوا فيه ضرورة تكريس غرفة ، لكي يختلي كلُّ رجل فيها مع زوجته ، لمدة نصف ساعة ، وتُعْرَف بِغُرفة صِلة الأرحام .. وهكذا ، ليخفّفوا عن أنفسهم أثقال هذه الحرب الرّهيبة .
احتجّ بعضُهم لأنّ هذا ليس بالتوقيت المعقول ، وأن الظرف غير مناسب للمُعاشرة ، بل مَن لديه الرّغبة في أنْ يباضع امرأته تحت القصف ؟ وكيف سيقوم له قائم ؟
قال آخر : حتى وإنْ حدث هذا ، فمِن أين لنا بالماء لإزالة الجنابة ؟ فردّ عليه أحدهم : نتيَمَّم يا أخي !
ثم توجّه الرجال بحديثهم إلى الشيخ عثمان مؤذّن جامع المخيّم ، للوقوف على رأيه ؟
صمتَ الشيخُ ثمّ قال : لماذا لا نُسمّيها غرفة الخِلْوة الشرعية ، فإنّها تسمية " خِلْوِه كثير " .. وانفجر ضاحكاً ، وقهقه حتى كاد أنْ يسقط عن مقعده ، فضحك الرجالُ على ضحكه ، كأنّما انتابتهم عدوى جنون انفلات الضحك ! حتى إذا هدأوا ساد صمتٌ ثقيل ضارٍ ، لم تكسره سوى زخاتٌ متقطّعة بعيدة ، من رصاصٍ غليظ ، تبعته أصداء قصف وتهشيم وصراخ ، يمور بالفزع والاستغاثات المشروخة .
واستدرك الشيخ : إنّ هذا أقرب إلى التقوى وتحصين الذات ، وأجدها فرصة لكلّ واحدٍ ليفشّ خلقه في فِعْلٍ حلال ، ولا أرى مانعاً له ، بل إنّه الثَواب بعينه ..
فوقف الأستاذ عطا ، كأنه يخطب : يا إخوان ، إن العدوّ يقتل المئات منّا يومياً .. وعلينا أن نُعَوّض هذا الخُسْران بمواليد جدد ، وسلاحنا الأكثر مَضاءً هو القنبلة السُكّانيّة ! هم يريدون شطبنا وإلغاءنا ومحوَنا من الوجود .. ونحن سنبقى هنا ، نتكاثر ونتوالد ونملأ الدنيا صغاراً ، يكبرون لمواجهة هذه العدميّة الماحقة .. ولهذا فأنا أؤيّد بشدّة هذه الفكرة الوطنيّة الخلّاقة .
ونظر القوم إلى عبدالله المحامي ، فقال : يا جماعة ، منذ أسبوعين لم نستحمّ ولم تغتسل نساؤنا ، ألا تلاحظون روائح العَرق والإفرازات الخانقة والخراء الذي عبّأ الدنيا ؟ عداك عن الفضيحة التي سيلاحظها أولادنا .. والله إنّي أخجل مِن فعل ذلك !
وهنا هبّ حسام ، ولم يكن قد مرّ على زواجه شهر : يا عمّي ، لا حياء في الدّين ، ثم إن الواحد منّا لا بدّ له إلا أن يمارس إنسانيته ، مهما كانت الظروف .. ألم تسمعوا أنّهم يُحضِرون فِرقاً موسيقية إلى الجبهات ليُرَفّهوا عن الجنود المُقاتلين ! فلماذا لا نُرَفِّه عن أنفسنا .. ما المانع .. ها ؟ وقد تطول الحرب .. فماذا سنفعل ؟
وتساءل أبو غسان : طيّب إذا انقصفنا ونحن ..
ضحكوا .. فقال الشيخ عثمان : والله ستكون ميتة رائعة ! وقهقه .. ثمّ أردف : إن الموت مُقدَّرٌ ومحتوم ، ولا يدري الواحدُ متى تكون منيّته ، فالأعمارُ بيد الله سبحانه وتعالى .. ولا داعي للتشاؤم .
وبالتأكيد ، فإنهم لاحظوا أنّ عبدالله المُحامي يهزّ رأسه استنكاراً لما يُقال !
ما بكَ يا أخ عبدالله ؟ سأله أبو غسان ..
فأجاب : والأصوات !
أيّ أصواتٍ تعني ؟
قال : أصوات الغنج والرّهز والتأوّه والنّحيب .. فانفرطوا ضاحكين ! ما أغضبَ المحامي ، وجعله يجلس وقد أدار ظهرَه لهم .. وهو يغمغم : ليس للخردوات أحاسيس ناعمة !
قال الشيخ عثمان : لدي فكرة !
ما هي يا شيخ ؟
أن تكون غرفة صِلة الأرحام في الطابق الثاني ، وتكون اللقاءات في النهار ، فعندها يكون الجميع في ساحة المدرسة ، وتتوه أصواتنا بين ضجيج القصف والصّخب المريع .
مَن سيعلّق الجَرَس ؟
رفع حسام يده ، فصمت الجمْع تعبيراً عن موافقتهم .
نادى حسام عروسَه ، فجاءت بكلّ ظلالها الوردية ، وهي لا تعلم السبب . وما كادا يضعان أقدامهما على أوّل درجة تصعد إلى الأعلى ، حتى هوت قنبلةٌ فجّرت معظم صفوف الطابق الثاني .. فتدحرجا ، وانخسفت المدرسة ُ صراخاً ووَلْولةً ونداءات ودعوات ..
بعد ساعات ، اطمأنّوا أنّ الجميع بخير . غير أنّ حسام حَلَفَ بالطَلاق ثلاثاً وأقْسَمَ ؛ بأنه لن يُخَلِّف بعد اليوم !