في العام 2005 نشرت صحيفة يابانية عنواناً مثيراً بالخط العريض: "أب فلسطيني ينشد السلام، يتبرع بأعضاء ابنه للأعداء".
وفي تفاصيل الخبر المرفق مع صورة لصبي يحتضن غيتاراً، أن طفلاً فلسطينياً من مخيم جنين قُتل على يد قناص إسرائيلي، ومع ذلك يقرر الأب المكلوم أن يساعد أطفالاً إسرائيليين بحاجة لزراعة أعضاء.. وتضمنت المقالة صورة الأب بوجهه الحزين..
قرأ الخبر طبيبٌ ياباني يدعى "وكاماتا"، وأثارته القصة، بل وظلت تؤرقه لخمس سنوات، إلى أن قرر لقاء هذا الأب، والاطلاع على تفاصيل القصة.. ومقابلة الأطباء الذين أشرفوا على العملية، والأطفال الذين أخذوا أعضاء الطفل الشهيد، وعوائلهم، وأن يقدم القصة في كتاب مصور، ليطلع العالم على القضية الفلسطينية من خلال قصة إنسانية. (ترجم القصة الدكتور عبد الله شرارة).
بدأت القصة صبيحة عيد الفطر العام 2005، حين أخذ الطفل "أحمد الخطيب" عيديته من والديه، وكان حينها يبلغ الثانية عشرة من عمره، ثم انطلق مزهواً مع أصدقائه للاحتفال بالعيد، وقبل أن يصلوا محل بيع الألعاب بخطوات قليلة.. فجأة، دوى صوت رصاصة شقت الهواء، وأصابت أحمد في بطنه، فسقط على الأرض مضرجاً بدمه، وعندما حاول جاهداً النهوض، أصابته طلقة أخرى في رأسه، فانتهى مستقبله.. هكذا بدم بارد.
تم نقله على الفور إلى مستشفى في حيفا، وبعد يومين أعلن الأطباء وفاته "دماغياً".
ومع ذلك تقدم الطبيب الذي حاول علاجه بمقترح لوالد الطفل الشهيد بالتبرع بأعضائه، وأخبره بوجود أطفال آخرين موشكين على الموت، أو يعانون من أمراض شديدة، وهم بحاجة الى أعضاء سليمة، وأن المستشفى لم يستطع إنقاذ حياة طفله، لكنه يستطيع إنقاذ حياة أطفال آخرين من خلال الأعضاء المتبرع بها.
ولكن لا يجوز للأشخاص المانحين للأعضاء أن يختاروا من تُمنح لهم هذه الأعضاء، ولا يستطيعون اختيار جنسياتهم أو ديانتهم، فمن الممكن أن يكون المتلقي يهودياً إسرائيلياً.
اتصل إسماعيل بزوجته عبلة، التي كانت تنتظر الأخبار مع أولادها الخمسة بقلق وخوف، ثم تحدث مع أقاربه، ومع شيوخ في الحي، ثم طلب رأي التنظيم..كان إسماعيل قلقاً من أية معارضة، بيد أن الجميع أيده في قراره ودعموه قائلين: "نحن نريد السلام والعدل، إذا كانت أعضاء ابنك ستمنح لطفل يهودي، فتلك رسالة لهم بأننا لسنا إرهابيين".
في اليوم التالي أعلن الأب قراره بالموافقة على التبرع بأعضاء ابنه.
في آب 2010، دخل الطبيب الياباني "وكاماتا" أرض فلسطين لأول مرة.. والتقى مع "إسماعيل" والد الطفل الشهيد، والذي بدوره أخبره القصة بتفاصيلها، وحيث وقعت، ثم أخذه بجولة إلى أزقة المخيم، وإلى المقبرة حيث يرقد ابنه.
كان إسماعيل يأمل مثل الطبيب الياباني أن يلتقي كافة الأطفال الذين تلقوا جزءاً من حياة ابنه أحمد.. وبالفعل، في الأيام التالية بدؤوا ببرنامج الزيارات، كانت البداية في منزل الطبيب المسيحي "ريمون شحادة" في قرية كفر ياسيف بالجليل الأعلى، وهو الطبيب الذي حاول علاج الطفل، والذي رحب بهما بحفاوة.
ثم زارا عائلة الطفلة "سماح" في قرية شعب، وهي قرية درزية تقع شمال حيفا. وكانت قد مضت سنوات خمس منذ تمت زراعة قلب أحمد في صدرها، ولا يزال هذا القلب ينبض بانتظام.
رحبت بهما العائلة، واحتضن الأب إسماعيل الطفلة التي كبرت وصارت صبية، كمن يحتضن ابنه تماما.
وفي قرية عراد في النقب، قابل إسماعيل عائلة الطفل محمد كعبية، الذي تلقى كِلية أحمد.. قابلوه بحفاوة وكرم.. عبرّوا له عن امتنانهم وشكرهم، وأنهم أصبحوا عائلة واحدة..
بقيت عائلتان فقط.. عائلتان، ويتحقق حلم إسماعيل الأول.. وهما عائلتان يهوديتان..
اتصل بهما الطبيب الياباني، ليحدد موعداً للزيارة.. كانت صدمته شديدة، ومخيبة.. حتى أنه شعر بأن مهمته التي جاء من أجلها باءت بالفشل.. فقد رفضوا مقابلتهم.. بكل برود، وبجملتين مقتضبتين فقط قالوا.. "نشكره، ولكننا لا يمكن أن نصبح أصدقاءً لفلسطينيين.. إن العلاقة مع فلسطيني سيكون لها أثر سيئ على طفلنا".. هذا ما قالوه بكل بساطة.
لم تتحقق أمنية الأب برؤية الأطفال الأربعة الذين تلقوا أعضاء ابنه بعد، بيد أن أمنيته الأهم هي أن يرى يوما يلعب فيه أطفال فلسطين دون خوف.. وأن يسافروا بحرية، وأن يسبحوا في البحر كلما رغبوا بذلك.. يأمل أن ينشد الناس السلام.. وأن تخلو قلوبهم من الكراهية.. هذا هو مشروعه، الذي من أجله تبرع بأعضاء ابنه..
ربما أصيب الطبيب الياباني بصدمة، بيد أنه قال: "رغم ذلك، عثرتُ على قصة إنسانية ـ تبعث على الأمل، بأن يتحقق السلام يوماً ما في هذه الأرض التي تدور في رحاها حلقة عنف رهيبة".. فسماح تحلم أن تصبح طبيبة لتنقذ حياة فلسطينيين، وأن تكون جسراً للسلام.
القصة صادمة، وتطرح أسئلة كثيرة، منها: هل يمكن للكراهية والعنصرية أن تصل إلى هذا الحد! وهل هاتان العائلتان تمثلان شريحة ضئيلة من المجتمع الإسرائيلي؟ أم أن سلوكهما متوافق مع العقلية العنصرية التي أخذت تتصاعد في إسرائيل على نحو مجنون!
في قصة أخرى، مشابهة من حيث السياق، ولكنها مختلفة في النتيجة، أصيب لاعب كرة إسرائيلي يدعى "آفي كوهين" بجراح قاتلة في حادث سير، ومكث فاقداً للوعي في المستشفى تسعة أيام، وكان "كوهين" يحمل "بطاقة إيدي"، وهي بطاقة تشير إلى أ حاملها يرغب بالتبرع بأعضائه بعد موته لإنقاذ حياة آخرين.
لكن مجموعة من رجال الدين اليهود حضرت إلى المستشفى وأقنعت عائلته بعدم التبرع بأعضائه، وبالفعل، قررت عائلة "كوهين" بأنها لا تريد التبرع.
وقد أفتى الحاخام "عوفاديا يوسف"، بأن حياة اليهودي تختلف قيمتها عن حياة غير اليهودي، وأنه لا يجوز انتهاك قدسية المتوفى اليهودي بأخذ أعضائه، خشية أن يتم التبرع بها لشخص غير يهودي.
الفلسطيني "إسماعيل الخطيب" الذي تعالى على جراحه، وتصرف بموجب إنسانيته النقية، أكد مرارا أنه غير نادم، بل فخور بما فعل.
حينما استدعى الموقف مواجهة عسكرية، مرّغَ مخيم جنين كرامة جيش الاحتلال بالوحل في نيسان 2002، وحين اختبُرت إنسانيته، سجَّل من خلال عائلة الشهيد "أحمد الخطيب" انتصاراً أخلاقياً على دولة تزعم أنها ديمقراطية ومتحضرة.
العالم حين يتضامن مع الصحفي الفلسطيني
26 سبتمبر 2023