«كا» كافكوية تركية

حسن البطل
حجم الخط

-1-
ملاحظة لاحقة 2016: المؤلف كان موضع ملاحقة واعتقال بعد محاولة الانقلاب الأخيرة ضد أردوغان.
***
نوبل – آداب أُخرى الى مبدع منشق آخر؟ هكذا قالوا ويقولون.. الآن، بعد ان ذهبت ملكة جوائز نوبل – آداب 2006 لأول أديب تركي، أميرات الجوائز النوبلية كأنها براءة اختراع في ميادين العلم، الطب، الاقتصاد والفلسفة.. وفي ميدان الأدب هي جائزة إبداع.
لا أجادل في ما قالوا ويقولون. لكن، أي مبدع- منشق هو هذا التركي «المغربن» اورهان باموك؟ عليكم ان تنفضوا رؤوسكم من حشو الأدب في السياسة؛ وحشر السياسة في موضوعة «صراع الحضارات» الرائجة، ولو ان تركيا، بالذات، تبدو برزخا، كما تبدو خندقا، كما تبدو جسرا في موضوعة صراع الحضارات. تركيا هي «آسيا الصغرى» او هي بلورة «العالم التركي» الممتد، إثنياً وحضاريا، من عمق آسيا الى حافة اوروبا. وأوروبا لا تغفر لمحمد الفاتح فعلته، حتى لو ارتدت تركيا – الاتاتوركية معطف العلمانية منذ 80 عاما. هل اهترأ المعطف .. او ضاق؟
اورهان باموك، (ولد في إسطنبول 1952) بنى روايته «ثلج»** بمهارة المهندس وبخبرة الصحافي، فهو درس هذه وتلك في الولايات المتحدة.
تركيا الاسطنبولية (الاتاتوركية) تتطلع الى أوروبا، لكن الى ماذا تتطلع تركيا الاناضولية؟ السيد «كا» بطل الرواية، وهو شاعر، ذهب، في بداية عاصفة ثلجية عاتية، الى اطراف شرق الاناضول، بالذات الى بلدة «قارص» من اعمال مدينة ارضروم، وقفل راجعا الى «فرانكفورت» مدينة منفاه السياسي مدة (12 عاما) بعد ان هدأت العاصفة. خلال أربعة أيام ثلجية وضع الشاعر «كا» 19 قصيدة وأساس رواية المهندس – الصحافي السيد اورهان باموك، الذي اكمل القصة في رواية محلية جدا، تركية جداً.. وعالمية جداً. لقد نجح في مختبر لجنة نوبل – آداب. لماذا نجح لأنه المبدع – البارع، الذي يضع «صراع الحضارات» في مداره الإنساني الصحيح، الذي هو المختلف – المؤتلف.
«قارص» هي المختبر التركي في الرواية للعلمانية الاتاتوركية، ففي هذه البلدة اقصى شرقي الاناضول وديار بكر، أعلنت بداية جمهورية مصطفى كمال – اتاتورك (أبو الاتراك) وفيها، أيضا، موجز تاريخ الاناضول الحديث (عادة يرمزون الى تركيا بآسيا الصغرى وتنعت «هضبة الاناضول») في قارص مرت روسيا القيصرية ومرت عساكر الإمبراطورية الإنكليزية، وأيضاً هناك بقايا الأرمن، وهناك الجيران الجيورجيون والاذريون، وقبل هؤلاء وبعدهم : الاكراد. أكراد يساريون ثائرون ضد التمييز القومي والفقر، واكراد مسلمون.. وهناك ظلال ايران الخمينية!
تركيا –الاتاتوركية- العلمانية هي إسلامية دينياً بنسبة 98 بالمئة، ولكن هذه الكتلة المنسجمة دينياً لا تبدو كذلك مع شيخوخة العلمانية الاتاتوركية. بركان إسلامي تحتها ورياح ليبرالية فوقها.
في «قارص» تبدو إسطنبول العلمانية خلفية هشة وعابرة.. واما فرانكفورت فهي الخلفية الحاضرة.
منها جاء الشاعر «كا» مبعوثاً من صحيفة «فرانكفورتر روندشاو» لاجراء تحقيقات صحافية حول انتحار الفتيات. لماذا فرانكفورت وليس نيويورك مثلا (حيث عاش اورهان باموك. نشأة أكاديمية واقامة مطولة؟)
فراكوفورت هي ألمانيا، وألمانيا هي اكثر من باقي أوروبا، بمثابة «تركيا في المهجر» انها بمثابة «معطف» العلمانية التركية.
معطف شتوي فاخر اشتراه الشاعر «كا» من مخزن «كاوفهوف»  هو البطل الرمزي الثانوي في تغريب «و»غربية» الشاعر «كا» بطل الرواية، الذي لا يعيش نهايتها. يموت اغتيالا بعد عودته الى فرانكفورت بأربع سنوات بشبهة انه «واش».
هناك «قرين» آخر للسيد «كا» انه «الكحلي» امير محلي لجماعة إسلامية مناهضة لتركيا – إسطنبول، ولإسطنبول العلمانية-الأوروبية.. وهو، أيضا، كان في ميونيخ.. ويموت اغتيالا في «قارص» بعد ان كسب قلب العلماني «كا».
جاء «كا» ليعرف سر انتحار المراهقات في «قارص» يشهد مسرحيتين داميتين، على الخشبة وفي الشوارع معاً، ولا يشهد انتحار اية فتاة من «فتيات الإيشاربات» بل يشهد اغتيال الداعية الإسلامي، والمنافح عن الفن العلماني.. واغتيالا عبثيا لمثقف علماني – إسلامي، وانقلاباً عسكرياً في «قارص».. فكيف تدخل علمانية باطشة رحاب أوروبا؟
تركيا الإبداع عبرت برزخ نوبل. تركيا العلمانية لا تعبر برزخ عضوية أوروبا العلمانية. اورهان ليس مبدعا فحسب، انه بارع، وبراعته تستحق الجائزة مثل إبداعه في البناء الروائي.
** «ثلج» اورهان باموك – «منشورات الجمل» – كولونيا – ألمانيا 2005 ترجمة عبد القادر اللي، 448 ص قطع متوسط.