تقرير مراقب الدولة حول عملية «الجرف الصامد»، الذي يتوقع أن ينشر في نهاية هذا الشهر، مع انتهاء الفصل الحالي لجولات رئيس الحكومة في العالم، سيثير اهتمام الجمهور حول ثلاثة امور مركزية للحرب: الأداء الخاطئ للكابنت اثناء الحرب، عدم استعداد الجهاز العسكري أمام تهديد أنفاق «حماس»، والفجوات الاستخبارية حول تطور التهديد من غزة. على خلفية المسودات الكثيرة للتقرير، والتي نقلت لأصحاب الشأن، ومن هناك تسربت الى وسائل الاعلام، يبدو أن اغلبية الحقائق والاستنتاجات التي توجد فيه أصبحت معروفة للجمهور. على المستوى السياسي سيشكل التقرير ذخراً في الصراع بين «البيت اليهودي» و»الليكود» على خلفية امكانية تفكك الائتلاف بسبب التحقيقات مع نتنياهو.
إلا أن التقرير لن يناقش، كما خطط المراقب منذ البداية، السؤال المركزي الذي يجب أن يقلق إسرائيل. على فرض أنه ستكون في المستقبل جولات اخرى مع المنظمات «الارهابية» التي تعمل في اوساط السكان وتوجه الصواريخ نحو مواطني اسرائيل، يجب على اسرائيل أن تعرف أنها قادرة على الانتصار في مواجهة كهذه. الوزيران افيغدور ليبرمان ونفتالي بينيت يشددان، لاعتبارات سياسية، على أن المواجهة القادمة يجب أن تنتهي بالحسم ضد «حزب الله» و»حماس». ولكن دون الانجرار وراء أقوالهما ودون الدخول الى مسألة ما هو الحسم في الحرب ضد تنظيم ليس دولة، يجب الاعتراف بالواقع: منذ أكثر من عقد لا ينجح الجيش الاسرائيلي في إنهاء معركة بانتصار واضح.
انتهت الانتفاضة الثانية في صيف 2005 تقريبا بنجاح اسرائيل في كبح «ارهاب الانتحاريين» الذي قادته «حماس»، «فتح»، و»الجهاد الاسلامي». هذا الصراع كلف اسرائيل اكثر من ألف قتيل وزيادة الانقسام السياسي حول مستقبل «المناطق». وأدى ايضا الى قرار رئيس الحكومة، ارئيل شارون، اخلاء المستوطنات في قطاع غزة وفي شمال «السامرة» تحت الضغط الدولي والعمليات «الارهابية». وفي الوقت ذاته ساعد النجاح أمام «ارهاب الفلسطينيين» الجيش في اقناع نفسه أنه مستعد جيدا للمواجهة القادمة ايضا. وعندما اندلعت بعد سنة في لبنان تبين أن هذه الفرضية خاطئة. رغم الاضرار الكبيرة التي سببها الجيش الاسرائيلي لـ»حزب الله» فقد وجد صعوبة في تنفيذ خططه من اجل مناورة على الارض اللبنانية بصورة ناجعة أو قمع نار الكاتيوشا الى حين انتهاء الحرب.
بعد عامين ونصف العام مع رئيس اركان جديد، خرج الجيش الاسرائيلي الى عملية «الرصاص المصبوب»، وهي عملية اخرى من بين العمليات الثلاث في القطاع. هنا ايضا تعرضت «حماس» إلى ضربة شديدة، لكن المناورة البرية الاسرائيلية في القطاع كانت محدودة جدا، وكان التوقع الاساسي من القادة هو الامتناع عن إيقاع عدد كبير من المصابين. وتم تسويق العملية للجمهور على انها نجاح واصلاح لأضرار حرب لبنان الثانية. وعمليا، رغم أن الجيش عاد الى التدرب وتهيئة نفسه للمعركة بشكل منظم، فانه لم يجرب في غزة التحدي التنفيذي بشكل حقيقي.
في العام 2012، مع نتنياهو كرئيس حكومة وايهود باراك كوزير دفاع اكتفت اسرائيل بالعملية البرية لمدة اسبوع في عملية «عمود السحاب»، وامتنعت قصدا عن الدخول البري الى القطاع. ومرة اخرى، رغم أن «حماس» تعرضت للضرر، وفقدت قائد الاركان، أحمد الجعبري، إلا أن المعركة لم تكن بمثابة خسارة بالنسبة لها. الاستعداد الاسرائيلي بوساطة مصر للموافقة على تقليص المعيار الامني قرب الحدود، من 500 متر الى 100 متر فقط داخل الاراضي الفلسطينية صعب عمل الجيش الاسرائيلي في الكشف عن حفر الانفاق الهجومية.
كان هذا تطورا قامت «حماس» باستغلاله في الحرب التالية، «الجرف الصامد» في العام 2014. وحينها ايضا كانت النتائج متداخلة في افضل الحالات. صحيح أن «حماس» لم تحقق أي هدف من اهدافها مثل رفع الحصار عن غزة أو اقامة الميناء، لكن اسرائيل حاربت مدة 51 يوماً ولم تنجح في تدمير الصواريخ في القطاع، وتسببت بضرر مؤقت لمشروع الانفاق الهجومية. وانتهت عملية «الجرف الصامد» بالتعادل مثل المعارك الأخرى.
هذه الأمور معروفة جيداً بالنسبة لاعضاء هيئة الاركان. في الجلسة التي عقدها في حينه رئيس الاركان، بني غانتس، بعد انتهاء العملية، انتقد بعض المشاركين فيها سلوك الجيش في الحرب. واعتقد آخرون ذلك ايضا، لكنهم فضلوا الصمت. التحقيق الذي اجراه سلاح الجو حول الحرب اعترف بالفجوة الصعبة في القضاء على الصواريخ. أما تحقيق هيئة الاركان، الذي تم برئاسة الجنرال يوسي بكر في قضية الانفاق، فوجد اخطاء شديدة في علاج الجيش الاسرائيلي لهذا التهديد. وفي مجال الانفاق يبدو أن الجيش الاسرائيلي قام بعدة خطوات ستحسن الاستعدادية الإسرائيلية: البدء في وضع عقبة هندسية وتكنولوجية حول الجدار الحدودي في القطاع، وتطوير نظرية عسكرية لمواجهة التهديد، وتدريب الوحدات الخاصة، ومضاعفة وحدة الهندسة المسؤولة عن ذلك.
في المقابل، الصورة أمام اطلاق الصواريخ بعيدة عن كونها مشجعة. المشكلة الاساسية تتعلق بامكانية اندلاع حرب غير متوقعة مع «حزب الله» في الشمال. التقديرات حول صواريخ «حزب الله» تقول إنها بلغت 80 ألفا، الامر الذي سينشئ صعوبة لدى الجيش الاسرائيلي في إسقاطها. ايضا بعد أن يتم ضم «شربيت كسميم» في نهاية العام كمرحلة وسطية بين «الحيتس» و»القبة الحديدية»، أي أن الجواب الدفاعي ليس كاملا. يمكن القول إن عدد الصواريخ الدفاعية لاسرائيل أقل من صواريخ «حزب الله»، اضافة الى التكلفة الباهظة، الامر الذي لا يسمح بانتاجها بشكل غير محدود. ستضطر الاجهزة الأمنية الى التدقيق جيدا عند اسقاط الصواريخ، حيث قد يبلغ عدد صواريخ «حزب الله» ألف صاروخ يوميا نحو الجبهة الداخلية أثناء الحرب، بعد ضربة البدء التي ستكون أكبر من ذلك.
الثمن المرافق
أمام التهديد المحدود للصواريخ القادمة من القطاع، طورت اسرائيل ردا لافتاً، حيث إن ذروته 90 في المئة من اسقاط الصواريخ، كما سجل في «الجرف الصامد» من خلال «القبة الحديدية». لكن تحدي لبنان أكبر كثيراً. الحرب مع «حزب الله» ستتسبب بكثير من الضحايا وتدمير البنى التحتية في الشمال والمركز، حتى لو كانت اضرار «حزب الله» ودولة لبنان أكبر.
في هذه الظروف سيكون هناك ضغط جماهيري على الحكومة والجيش لاستخدام القوة الزائدة ضد «حزب الله». هذه الخطوة محتملة، لكن لها ثمن مرافق وهو الانتقاد الدولي، وايضا يمكن أن يؤدي ذلك الى التوتر مع روسيا التي تعتبر حتى الآن على الاقل أن «حزب الله» جزء من التحالف الذي تقوده من اجل دعم نظام الاسد في سورية.
«حزب الله»، بشكل أقل حماسة، وجد حلا التفافيا على التفوق الاسرائيلي بالنار الدقيقة في التكنولوجيا والاستخبارات من خلال توسيع قدرة الحاق الضرر بالجبهة الداخلية. تقدم اسرائيل الحلول الخاصة بها من «نظرية الضاحية» التي طورها رئيس الاركان، غادي آيزنكوت، عندما كان قائدا للمنطقة الشمالية في العام 2008، وهي تتحدث عن تدمير شامل لبنى «حزب الله» التحتية وحتى التوصية بالحاق الضرر بالبنى التحتية في لبنان. إلا أنه ليس واضحا ما هي النظرية التي ستتبناها الحكومة وهل سيكون لها تأثير عملي؟ الجانب الايجابي في هذا الواقع يكمن في حقيقة التعادل الاستراتيجي، حيث إن كل طرف يدرك الاضرار المحتملة التي قد يسببها الطرف الثاني، الامر الذي يساهم في ابعاد الحرب القادمة. ادراك اسرائيل لامكانية تورطها يبعد غريزة المغامرة من قبل الطرف السياسي ويبقي الحرب ضد «حزب الله «خيارا أخيرا فقط.
التساؤلات تظهر ايضا حول الحل الهجومي للصواريخ. فعليا يبدو أن الجيوش الغربية التي تواجه ذلك منذ الفشل الأميركي والبريطاني في صيد راجمات السكاد العراقية التي أطلقت الصواريخ نحو تل ابيب في حرب الخليج في العام 1991 لم تحقق انعطافة نوعية منذ ذلك الحين. أيضا في «الجرف الصامد» في غزة فشلت جهود اطلاق النار في القضاء على الصواريخ. نتائج صيد راجمات الصواريخ في غزة كانت ضعيفة. وقف الحرب حدث أخيرا بدون انتصار اسرائيلي، وبعد استنزاف «حماس» وتعرضها للاصابة الشديدة في المعركة التي دار جزء كبير منها حول الانفاق في محاولة للوصول الى اهداف حساسة. حدث ذلك في منطقة أصغر من المنطقة اللبنانية، وفي ظل عدم وجود صواريخ مضادة لطائرات سلاح الجو.
الحملة البرية ايضا في «الجرف الصامد» كانت محدودة بحجمها ونتائجها. نتنياهو، غانتس، ووزير الدفاع، موشيه يعلون، لم يرغبوا بحرب برية للقضاء على نار الصواريخ. طلبوا عملية محدودة في عمق كيلومترين من أجل معالجة خطر الانفاق بعد الضغط الجماهيري. الاهداف المحدودة والضبابية التي وضعها المستوى السياسي، الانجازات الجزئية ضد الانفاق على الارض، الوساطة المصرية التي كانت خاطئة، والى جانب ذلك الفجوات في التحليل الاستخباري حول نوايا «حماس» اثناء الحرب، كل هذا خلق صعوبة امام الجيش في الوصول لنتائج مرضية ايضا حسب معايير هيئة الأركان.
سيطر الجيش على منطقة صغيرة بالقرب من الجدار، وتحرك فيها منتظرا التوجيهات من المستوى السياسي، لكنها لم تصل. الاسابيع الاخيرة للحرب مرت والجيش ينتظر وقف اطلاق النار. يبدو أن هذه التجربة المخيبة شجعت نائب رئيس الاركان في حينه آيزنكوت بعد أن اصبح رئيسا للاركان على صياغة وثيقة استراتيجية حول توقع الجيش للتوجيهات المفصلة من المستوى السياسي اثناء الحرب.
المناورة البرية - كما يقول ضابط خدم في منصب رفيع اثناء «الجرف الصامد» - كانت مترددة وجزئية. ايضا رئيس الاركان لم يتلهف للدخول الى عمق القطاع. وهذا ما يؤكده التقرير العسكري الذي قدم للكابنت، والذي توقع وقوع 500 قتيل إسرائيلي في عملية احتلال القطاع وتكلفة سنوية تبلغ 10 مليارات شيكل لاستمرار السيطرة عليه.
التحدي الجوي
تغيرت الاحوال في ظل آيزنكوت رئيسا للاركان، الذي يعطي أهمية للمناورة البرية، واهتم بتحسين قدرة الوحدات البرية. ورسميا يهتم الجيش بالتأكيد في تطوير القدرات في الجو والاستخبارات والبر والدفاع الجوي من أجل ضرب «حماس» و»حزب الله» ضربة ساحقة. عمليا، فان هذه الأمور ستخضع للاختبار فقط اذا اندلعت حرب اخرى في الشمال.
منذ عدة سنوات يقدم سلاح الجو نفسه كحل لمشكلة النار من لبنان. ولكن السؤال هو هل السلاح الجوي هو جزء من المشكلة رغم قدراته الكبيرة؟ لم تدرس اسرائيل بجدية بدائل ممكنة لتطوير صواريخ أرض – أرض كما اقترح وزير الدفاع، افيغدور ليبرمان، في الآونة الاخيرة.
2024 عام الكارثة والبطولة.. 2025 عام الحسم
31 ديسمبر 2024