الشهيد «مأمون مريش» يواجه «تسيفي ليفني» بتاريخها

images (2)
حجم الخط

 

 

 
 


عادت قصة الشهيد مأمون مريش إلى تصدر الواجهة الإعلامية، حال تداول فكرة ترشيح «تسيفي ليفني» لمنصب رفيع في الأمم المتحدة، وجهت أصابع الاتهام «لليفني» عن قتله مع ابنه عام 1983. «مريش» لمن لا يعرفه أو نسيه أو تناساه، شهيد «فتح» الاستثنائي من مرتبة الشهداء: «أبو جهاد الوزير» والشهيدة «دلال المغربي». 
لم يمت الابن «بشير»، يصحو من غيبوبته ليعيد تشكيل المواد التي دخلت إلى ذاكرته: صوت الرصاص، ذراعي والده تحيطه وتحميه، وجوه القتلة على درَّاجات نارية مسرعة، صورته ميتاً في الصحف. يستعيد «مريش» الابن ذاكرته، ليسجل القصة في فيلم إبداعي يروي الحكاية وتداعياتها..
تخرج إحدى الرصاصات من صدر الأب لتستقر في رِجْل الابن، يتصفى الدم؛ نقطة نقطة. يتم التقاط صور الجثتين، يرسل البيان إلى الصحف مرفقاً بالصور. يعلن المستشفى عن قتل أربعين عاماً على يد الموساد الإسرائيلي، منهم ست وثلاثين عاما قُدِّر للمناضل «مأمون مريش» من تصريفها، باقي السنوات الأربع تعود للطفل «بشير مريش»، قبل أن يشعر الطبيب خلال سحبه الغطاء على وجهه، أن خفقات قلبه الصغير تبث إشارات الحياة. يُسرع الطبيب اليوناني بجثة الصغير إلى غرفة العناية المكثفة. يتم انقاذ «بشير» من موت أُعلن على الملأ.. 
يُسدَل الستار عن حياة «مريش» الأب، لدى اقتراب رجال الموساد الاسرائيلي بدراجاتهم النارية من السيارة التي يستقلها «مريش» محتضناً ابنه. ويُفتح الستار عن مسار حياة الطفل «بشير» الذي يستعيد حياته لحظة وصولها الحافة، لكنها تبقى عودة منقوصة، فالأسئلة المتشابكة تبدأ في طرح نفسها، لم يعد بمقدور الطفل الذي استعاد حياته وذاكرته، العودة إلى مربعات الطفولة. 
الخلاص من الذاكرة كالخلاص من الظل، مستحيلان. الذاكرة وظلها يستمران في ملاحقته، أحلام مشتتة ومكتنزة بحمل ثقيل، في العمر الذي تتشكل فيه الشخصية، عوامل ومواد قوية تدخل في التكوين. فالقدر يتدخل لإعادة نحت وعي “بشير”، تغيير المسار، تتقمصه الحكاية، ترافق تفكيره، وترسم ملامحه. 
صورة «بشير» ميِّتاً تنطبع على قرصه الصلب، تؤثر على حياته. الشهيد لا يشبه الميت، الموت لا يشبه الموت، لا يوجد مقاربة بين الموت اغتيالاً وبين الموت الطبيعي، لذلك سيتابع الصغير القصة، التحقيق والبحث والمتابعة، قبل أن يوجه لوالده عتاب الترك.
ينجو الولد من الموت، لكن ذاكرته لا يمكنها النجاة من وابل الرصاص الذي قتل والده. من هنا تبدأ حكاية والده التي يسجلها الصغير في فيلم إبداعي، «صورتي وأنا ميِّت، بعد امتلاكه أركانها. تنتهي قصة الوالد بالموت، لتبدأ قصة الابن الذي يكبر مُلاحقاً بصوت الرصاص والموت.
على مدار أكثر من ساعة، يعرض «بشير» قصته مع قضيته الخاصة وقضية شعبه العامة. يبدأ «بشير» في البحث عن أبيه، في الصحف والمجلات، الاستماع إلى سيرة والده النضالية من رفاق دربه في حركة فتح، التعرف على أصدقاء والده في المدرسة، جلسات طويلة مع رفيقة الدرب مفتشاً في قلبها وعقلها عن والده، يقلب الصور وقصاصات الورق، يجمع الشهادات كأحجية تناثرت قطعها بين التاريخ والجغرافيا، أشلاء قصة لم تكتمل بعد. يضع الدوائر الحمراء حول دور «ليفني». 
في خلفية البحث عن والد «بشير»، تقلبات القضية وتجاذباتها السياسية، قصة «بشير» تذوب بالقصة الفلسطينية، يكبر الولد ويكبر بحثه وتتوسع دوائره، لا يكتفي القضية الخاصة، بل يذهب باتجاه مآلاتها، الانحراف والشرذمة، التخلي عن المسؤولية اتجاه الشهداء والإخلاص لذويهم، تداعيات التقلبات والانقلابات، اليأس والإحباط، ليتدحرج الفيلم وتكبر المعاناة الخاصة وتتضخم الأسئلة، دون أن يسمح لها التمادي، نحو مشاعر الندم، العتب على الشهداء الذين اقتحمهم الموت، بسبب تجرؤهم عليه.
تتقاطع قصص أبناء الشهداء مع بعضها، تجمعهم رحلة البحث ومتابعتها، إنها رحلة البحث عن هويتهم، عن حرمانهم من حياة طبيعية، عن الجينات والمسامات. رحلة البحث عن أسباب مأساتهم. يموت شيء فيهم، وتحيا أشياء أخرى، وهو ما حدث مع «مريش» الابن، راجع الموت نفسه وتراجع عنه، ليعرف المزيد عن الرواية.. قبل أن يحظى بموته الكامل.
مع تداول اسم «ليفني» لمنصب هيئة تعمل إسرائيل على تعطيل قراراتها، يخرج الشهيد «مريش» من مدفنه ليحاسب القتلة، انبعاث قضيته توصل الرسالة بأنهم المرجعية التي ينبغي الاهتداء بنورها ونارها، تطالب استثمارهم في العملية السياسية. فالوقت يمضي وما زال الشهداء ينتظرون انتصارا سياسيا فلسطينيا يستند على تضحياتهم. قصة الشهداء تجلب الجناة إلى المحاكم، لماذا نحن عنها معرضون.
«تسيفي ليفني» التي قيل انها اُقْتِرِحَت لمنصب أممي جديد يتعارض أخلاقياً مع تاريخها الأسود. وقفت المرأة خلف اغتيال الشهيد «مأمون مريش»، وتقف مع «نتنياهو» خلف اغتيال المنصب الهام الذي عُرض على الدكتور «سلام فيّاض» في الأمم المتحدة. وتقف القيادات الإسرائيلية القاتلة مع الرئيس الاميركي «ترامب»، الذي لم يبدأ مهامه بعد، حتى شارك في عملية اغتيال قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالحل السياسي في فلسطين، حل الدولة الفلسطينية المستقلة.  
الطريق واضح للغاية، طريق الشهداء، لكنه بحاجة إلى شجاعة وإرادة، الخروج من المسار الفاشل، التوجه نحو المحاسبة والمساءلة، هكذا يقول الشهداء