المتوكل طه : " البدلة .. قصة "

البدلة - قصة
حجم الخط

ومات أبو فيروز ، ذلك الرجل الذي جاء جريحاً وحيداً إلى قريتنا ، عشيّة النكبة ، فقد وقعت قنبلةٌ على اللاجئين الذين خرجوا من يافا ، هرباً من المذابح ، فَفًقد أبو فيروز سَمعَه ، إذ فجّر قيزان القنبلة طبلتيْه ، مثلما مزّقت عائلته برمّتها .

كان لأبي فيروز بدلة سوداء ،  تبذّ أيّ طقم رسمي أو " تاكسيدو"  يتزيّا بها المشهورون من نجوم السينما ورجال الأعمال ، وكانت القرية تحسد أبا فيروز على بدلته ، التي يحرص عليها حرصه على حياته !

كان يعلّقها على مسمار الحائط ، بعد أن يلفّها بشرشفٍ حتى لا يظهر منها شئ ، ويلفّعها خوف الغبار والشمس ، ولا يلبسها إلا  في الأعياد وفي بعض الأعراس.

حاول بعض العِرسان أنْ يستعيروا البدلة ، فرفض أبو فيروز ، وغضب ، كأنهم يريدون استعارة زوجته !

وبعد أنْ دفنوا أبا فيروز ، اجتمع رجال القرية ، فشكّلوا لجنةً لحَصْر تَرِكة الرجل واستلام بدلته .. غير أنّهم اختلفوا على مَن سيرثها !

وفي النهاية استطاع مختار القرية أن يحسم الأمر، وتكون البدلة في عهدته ، فهو لا يلبس البدلات ، بل الديمايات والقنابيز ، وأولاده قد تزوّجوا ، وستكون البدلة بمثابة نفر من سكان القرية ، يحرص عليها ويحرسها .

واتّفقوا على أنّ كلّ عريس يستطيع أن يستعيرها يوم زفافه ، شرط أنْ يحافظ عليها .

والمفارقة أن مَن كان ضعيف البنية قد ظهرت عليه البدلة فضفاضةً ، واضطر أنْ يبحث عن حزامٍ جلدي ليشدّ به خَصْر البنطال ، حتى لا يسقط على قدميه .

وربما تردّد المختار لأن يعيرها لمَن كان سميناً ، خوفاً من أنْ يفتقها أو يفختها أو تتمزّق بين إليتيه .. ما خلق عداوات جديدة للمختار ، وجعل الاتهامات تنهال عليه ، بدعوى التحيّز وعدم العدل.

 بعد بضع سنوات ، فَقَدت البدلة رونقها ، وتفسّخت خيوطها ، وكلَحَ لونها ، وبدَت عليها تلك البقع الملطوخة على صدرها وفخذيها ، وتهلهلت ، ولم تعد تصلح للعرسان .

عقد المختار اجتماعاً لرجال القرية ، وقد أحضر البدلة وعرضها عليهم ، محاولاً إقناعهم بأنها أدّت واجبها وآن الأوان لأن تستريح .

أين ستذهب البدلة ؟

تعدّدت الآراء واختلف المجتمعون ، وانقضى النهار دون أن يتوصّلوا إلى قرار ، فأرجأوا الاجتماع لليوم الثاني ، ولم يتّفقوا ، فمدّدوا مؤتمرهم لليوم الثالث ، فالرابع .. وفي اليوم الخامس توافقوا على أنْ يحملوا البدلة إلى متحف المدينة ، لعرضها هناك ، مع شرحٍ مكثّف معها ، باعتبار أنّها  قدّمت خدماتٍ جليلة للناس ، وأنّها ما تبقّى من يافا ، ومن رائحة البلاد !

ذهب المختارُ برفقة ثلاثةٍ من رجال القرية ، وقد حملوا البدلة بحرص واهتمام ، وقصدوا المتحف .. فاستقبلهم المدير وتسلّمها !

وما كاد المختار ومَن معه يخرجون من البوابة ، حتى أمر المديرُ عاملَ النظافة في المتحف لأنْ يُلقيها في سلّة المهملات .