قرار الاتحاد الأوروبي بالتشاور مع السلطة والذي سبقه قرار بريطانيا وإيطاليا بوقف تمويل رواتب موظفي قطاع غزة- باستثناء الصحة والتعليم-، يأتي -برأيي- مكملاً لنهج اعتمدته السلطة منذ انقلاب حماس لكي "تغرق غزة في البحر"!
قررت في هذا المقال أخذ مؤشر واحد هو موظفي القطاع الذين يتقاضون رواتبهم من الخزينة برام الله، واختيار الموظفين لم يتم عشوائياً، بل لأن الوظيفة في القطاع تساوي حياة!
هذا المؤشر بحاجة لمختص "لئيم" يترجم الأرقام الكثيرة وغير الموحدة الصادرة من المؤسسات الرسمية التابعة لذات السلطة، لذا يحتاج لتحقيق استقصائي وليس مقال.
كثيرة هي الوثائق المنشورة للمؤسسات ذات العلاقة: وزارة المالية، ديوان الموظفين، ديوان الرقابة، وزارة التخطيط، وهذا من جهة يدل على شفافية الحكم وغموضه في آن، ولمواطنة عادية مثلي، عليها أن تلجأ لما يسمى "موازنة المواطن" المنشورة على صفحة وزارة المالية، لتكتشف أنها موجهة لمواطن لغته انجليزية وليست لنا أصحاب لغة الضاد!
قد يكون أقدم تقرير- يُعتد به- تمكنت من العثور عليه ويرصد أعداد الموظفين في السلطة هو تقرير ل"بكدار" في عام 2007، رصد اجمالي أعدد الموظفين في القطاع قبل الانقلاب بأنه (45,650 موظفاً مدنياً) و (31,350 موظفاً عسكرياً)، أما أحدث وثيقة ترصد أعداد هؤلاء فجاءت على لسان رئيس الوزراء عبر بيان مجلس الوزراء بتاريخ 7-2-2017، حيث أعلن أن حكومته تدفع رواتب (28 ألف موظف مدني)، و(35 الف موظف عسكري)، وعليه نستنتج أن عدد الموظفين المدنيين في قطاع غزة قد نقص ب (17,650) موظف، بينما زاد عدد العسكريين!
لا أعرف كيف زاد عدد العسكريين في القطاع في السنوات العشر الأخيرة، رغم أن المنطق يقول إن عددهم سيقل لأسباب طبيعية منها الموت، والاحالة على المعاش- عدا عن الأسباب الأخرى من فصل ووقف راتب! ولأن مسألة العسكر وأعدادهم وموازنتهم يجري التعامل معها كسر من أسرار الأمن القومي، فقد اختفت أعدادهم ما بين ضفة وقطاع منذ العام 2013، لذا سأركز على المدنيين.
وعودة لبيان مجلس الوزراء، الذي هو وثيقة رسمية كونها صادرة عن تجمع الوزارات جميعا، فمطلوب تفسير عدد الموظفين المدنيين الوارد في البيان مقارنة بما قدمه مدير عام الموازنة في شهر يناير 2017، الذي ذكر أن عدد الموظفين المدنيين في القطاع حتى شهر نوفمبر 2016 بلغ (24,872 موظفاً مدنياً) بفارق يزيد عن ثلاث الاف وظيفة مدنية عما صرح به رئيس الوزراء!
أما ديوان الموظفين العام- الذي يجب شكره وتشجيعه لنشره تقاريراً دورية وتفصيلية- فسأقتبس من تقاريره المنشورة مقارنة تستحق التوقف عندها: في نهاية 2008، بلغ عدد الموظفين في القطاع (31,948 موظفاً)، وفي نهاية العام 2005 بلغ العدد (27,865 موظفاً) أي وخلال 7 سنوات، انخفض العدد بما يعادل 4 آلاف راتب، ولو أضفنا قرار السلطة في 2007 (حسب الهيئة المستقلة لحقوق الانسان 2007)، بوقف رواتب (17,343 موظف) سيصل عدد المفصولين/ أو من توقفت رواتبهم 21 ألف موظف (بدون حساب دقيق للعسكريين المفصولين)!
بمعنى آخر هناك 21 ألف بيت/ أسرة قد تضرر خلال العشر سنوات الأخيرة، وهو أكبر من عدد البيوت التي هدمها الاحتلال في حربه الأخيرة على القطاع، واكبر من عدد الشهداء الذين سقطوا في ذات الفترة!
الراتب في قطاع غزة، ليس شيكاً يتم منحه لمتعطلين عن العمل بقرار رئاسي، بل هو الهواء والماء لعائلات تعتاش عليه، الراتب هو ضريبة دفعها ولا يزال يدفعها "الملتزمون بالشرعية"، ليتحولوا لعبء "وهمي" يجري ترويجه بنشر أنصاف الحقائق وأحياناً التلاعب بها، ونصف الحقيقة هي ما ورد في هذا المقال، فمثلا، هل تعرفون أن ما يقارب ال 17(ألف موظف) لم "يستنكفوا" عن العمل في القطاع، واستمروا على رأس عملهم، واستمرت السلطة في دفع رواتبهم، ومع ذلك يجمعوهم مع باقي الموظفين ويسمونهم "مستنكفين"؟
قطاع غزة ليس عبئاً إلا على الرهائن المحبوسين فيه، ولسوء حظهم أن الصدفة ألقت بهم في يد أكثر من خاطف وسجان، يموتون ببطء وصمت، ويعيشون على أمل راتب ووظيفة وتصريح معبر!
قطع الرواتب، وإغلاق المعابر، وفرض ضرائب ورسوم لتمويل حكومتي رام الله وغزة، لن يُغرق غزة في البحر، ولكنه سيلقي بها في أحضان من يتربصون بفلسطين وقضيتها، فلا تلوموا الرهائن بل لوموا الخاطف والسجان.