مشاغلات إسرائيلية ليس أكثر

د. عبد المجيد سويلم
حجم الخط

عندما سُئل أحد «الفلاسفة» المحسوبين على الفاشية الإيطالية عن تعريفه للحقيقة، أتعرفون بماذا أجاب....؟ بكل بساطة أجاب الرجل: الحقيقة هي الشيء الذي يفكر به موسوليني في هذه اللحظة....!!
منطق القوة والتسلط والاستعلاء هو مدخل العنصرية، والعنصرية شكل أعلى ومنظم للصفات الثلاث، وعندما تكمل وتستكمل المنظومة العنصرية تبدأ بإنتاج الأفكار المؤسّسة على أوهام العنصرية، وغالباً ما يتم بناء الإنتاج الفكري للعنصرية على أوهام وخزعبلات وعلى هرطقات يعتبرها أصحابها الحقائق المطلقة الوحيدة في هذا العالم.
اليمين القومي الديني في إسرائيل اكتملت لديه و»نضجت» منظومة العنصرية وأصبح يفصح عن أفكاره بما يكفي من الوضوح، وبما يكفي أن تكون هذه الأفكار مطروحة للتداول السياسي وبما تتطلب من سياسات عملية لتحقيقها.
ساعد في هذا «الإنضاج» الوضع الإقليمي والانقسام الداخلي الفلسطيني ثم «الإطلالة» المباغتة للرئيس ترامب.
هذه كلها عوامل مساعدة، أما الأساس فهو استكمال البنى الثقافية والاجتماعية في إسرائيل لتتناغم مع البنى السياسية التي أحكمت سيطرتها على الحكم، ومع التحولات الهائلة في بنية الدولة في إسرائيل من دولة للجيش إلى دولة للأمن ثم إلى دولة للاستيطان.
كانت إسرائيل من الزاوية التاريخية قد عاشت واعتاشت على مجموعة من «الحقائق»....!!
«الحقيقة» الأولى، التي اعتبرتها الحقيقة المؤكدة والمطلقة آنذاك هو أنه لا وجود حقيقيا لشيء اسمه الشعب الفلسطيني، وقد تصوروا ان عشرات المعجزات لن يكون بمقدورها جمع الشعب الفلسطيني في هُويّة وطنية تحت علم وطني وفي إطار قضية واحدة وموحدة. فماذا كانت النتيجة؟!! هُويّة واحدة وشعبا واحدا وقضية واحدة.
«الحقيقة» الثانية، التي توهمتها إسرائيل وحاولت أن تمنّي نفسها بها هي أن الآباء سيموتون والصغار سينسون وستنقرض المسألة كي تتحول إلى مجرد ذكرى سيطويها التاريخ وثنايا الزمن. فماذا كانت النتيجة....؟!! كل جيل فلسطيني جديد يظهر أكثر استعداداً من الجيل السابق على المجابهة. وتتحول الأجيال إلى الفعل الكفاحي وإلى المجابهة السياسية بصورة أرقى وأنضج وأشمل وأعمق من كل المراحل السابقة.
«الحقيقة» الثالثة، التي ما زالت تسيطر على الذهنية الإسرائيلية وتزرع الأوهام في كامل البنية السياسية الإسرائيلية هي أن الشعب الفلسطيني أصابه اليأس والوهن وأنه لن يقوى على الصمود والمجابهة، وأن الوقت قد حان للإجهاز على طموحاته وأهدافه وحقوقه، وأن بالإمكان «كي» الوعي الفلسطيني وتقبل «الهزيمة» تحت مسميات جديدة من بينها الحل المؤقت والحل الإقليمي وغيرها من الخزعبلات!!.
نعم، إسرائيل انتقلت من النفي المطلق إلى الإنكار ثم التجاهل إلى أن وصلت إلى البحث عن حل في مرحلة انتقالية على الصعيد الداخلي الإسرائيلي (بعد أن تحولت القضية الفلسطينية إلى حقيقة سياسية) وبعد أن انهارت أمامها كل «الحقائق» التي اعتاشت عليها لكنها (أي إسرائيل) رفضت الانصياع لمنطق العقل ومنطق الواقع وتحولت من جديد إلى مرحلة جديدة من الأوهام.
أحد أهم وأكبر هذه الأوهام هو ما تسميه إسرائيل الحل الإقليمي، أو الحل الإقليمي كما تفهمه وتعمل عليه.
قادة اليمين المتطرف والعنصري في إسرائيل ذهبوا بعيداً في معركة الأوهام التي يخوضونها إلى درجة أنهم (باتوا) جميعاً على قناعة بأن العالم العربي وبعض البلدان الإقليمية هم جاهزون اليوم لإقامة علاقات «تحالفية» مع إسرائيل وهم «يتحينون» الفرصة لتجاوز القضية الفلسطينية أو فرض الحل الإقليمي عليها....!!
وقادة اليمين الإسرائيلي يرون في القادم الجديد إلى البيت الأبيض هو الحصان الجامح الذي سيسابق الريح ومن خلفه عربة هذا الحل المنشود!!
إسرائيل تحب أن تبيع لنفسها هذه الأوهام والخزعبلات لأنها بكل بساطة لا تعرف ما الذي يمكن بيعه لشعبها إذا لم يكن لديها مثل هذا الوهم.
فما دام الشعب الفلسطيني خانعاً ومحبطاً ويائساً ومنقسماً، وما دام العالم العربي مدمراً وغارقاً في حروب الطوائف، وما دام القادم الجديد مستعداً لتبني المفاهيم والأفكار والسياسات الإسرائيلية فلا أقل إذن من ان تتوهم إسرائيل وتمني نفسها بهذه «الحقائق» الجديدة....!!
ومن اليوم فصاعداً فإن مصير الشعب الفلسطيني معلق برؤية قادة اليمين في إسرائيل وبالأفكار التي يحملها ترامب للشرق الأوسط، وبعالم عربي «جاهز» للسير قدماً في هذا الطريق....!!
أما الحقائق القائمة على الوقائع والخبرة التاريخية ومسار الأحداث فتختلف مع «الحقائق» الإسرائيلية أو بالأحرى مع الأوهام والخزعبلات الإسرائيلية.
فخلال قرن كامل من الصراع لم يثبت ولا للحظة واحدة أن الشعب الفلسطيني قد يئس أو استكان أو سكت وصمت عن حقوقه وأهدافه في بلاده، ولم يثبت ولا لمرة واحدة أن هذا الشعب قد سلّم لأحد في هذا العالم بوصاية أو نيابة أو توكيل لتقرير مصيره. بل على العكس كان حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه قد ترافق بالكامل مع موجات متتالية ومتواصلة من الكفاح الوطني، وفي سياق واعٍ للوصول الى الإمساك التام بكامل تفاصيل قضيته الوطنية والدفاع المستميت عنها.
ولم يثبت ولا لمرة واحدة أن محاولة واحدة لثني الشعب عن حقوقه وأهدافه وطموحاته قد نجحت على الرغم من الخلل الهائل في موازين الصراع على مدى عقود كاملة. بل على العكس كلما اختلت هذه الموازين أكثر أبدى الشعب الفلسطيني دائماً المزيد وفقط المزيد من الاستعداد الكفاحي المطلوب.
كما لم يثبت أبداً أن دولة عربية واحدة بعد أن استعاد الشعب الفلسطيني هُويّته وشخصيته الوطنية وكرّس منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد له قد عملت أو جاهرت أو ألمحت إلى استعداد ما لتجاوز حقوق الشعب الفلسطيني، على الرغم من كل الصعوبات وكل الضغوط التي تعرضت لها، وخصوصاً الصعوبات التي عاشتها البلدان العربية بعد هزيمة حزيران. وبعد أن تحول التحالف الأميركي الإسرائيلي إلى ركن أساسي في خارطة الصراع على مستوى الإقليم كله.
إسرائيل تعرف أن الحل الإقليمي هو أكذوبة، وتعرف أن الشعب الفلسطيني هو شعب المفاجآت الكبيرة، وإسرائيل تعرف أن ترامب رجل «قاصر» في عالم السياسة، وهي تعرف حق المعرفة أن «الحلف» الذي تتوهمه لن يأتِ أبداً قبل قيام دولة فلسطينية يقبل بها الشعب الفلسطيني وهو لن يأتِ قبل القدس عاصمة للدولة، وقبل حل حقيقي لقضية اللاجئين، ولكنها إذا لم تتوهم فعلى ماذا ستعتاش!!
إذا تماسك الشعب الفلسطيني وتمسّك بحقوقه وأمسك بقضيته يصبح إسقاط المشروع الإسرائيلي للحل ممكناً ومتاحاً ومدخلاً للحل القائم على الواقع وليس على الأوهام.
فليتوهم نتنياهو كما يشاء، أما نحن فلدينا ما نفعله لتخليصه من هذا الوهم ويجب أن نفعل.