حتى ساعة كتابة هذا المقال، ليس معروفاً من هو النجم الجديد لـ»أراب أيدول» لهذا العام، وإن كانت معظم الدلائل تشير إلى أنه ربما سيكون واحداً من الفلسطينيَّين: أمير دندن أو يعقوب شاهين، وإن كان أداء أمير أكثر تميزاً..
بكل الظروف يمكن القول: إن الفلسطينيين وفلسطين اقتطعوا مساحة كبيرة من وقت كل العرب المتابعين للبرنامج ليستمعوا إلى الأغاني الفلسطينية وإلى فلسطين والقدس وكل المدن مرة تلو المرة.
ليس مدهشاً أن يتقدم الفلسطيني وليس جديداً أن يتصدر هذا الذي يقف خلفه تراث آلاف الأعوام من الحضارة، فالفن هو انعكاس للتراث وللتاريخ، ولدينا ما هو زاخر، وهؤلاء هم امتداد لكل ما نما وترعرع على هذه الأرض، ونقل للعالم تجربة اهتدى بها الكون منذ اكتشاف الزراعة هنا في فلسطين والثورة الزراعية منذ أحد عشر ألف عام والتي غيرت وجه البشرية آنذاك.
الثورة الزراعية في فلسطين حولت المجتمعات البشرية من مجتمعات متنقلة راحلة إلى مجتمعات مستقرة وحولت الاقتصاد من اقتصاد جمعي إلى اقتصاد زراعي موسمي، ومن ثم أحدثت ثورتها الثقافية وأغانيها وفلكلورها الخاص.
ففي بداية نيسان من كل عام ينتهي الشتاء وتزدان الأرض باللون الأخضر والأعشاب وكان ذلك بداية السنة الكنعانية. كان ذلك اليوم يوماً تقام فيه الأفراح، حيث كان أجدادنا الكنعانيون فيه يزفون الإله الكنعاني بعل «إله الخصب» إلى عروسة الآلهة «عناة»، ويغنون في الزفاف للعروس «على دل عناة»، والتي تحولت «على دلعونا»، هذه الدبكة التي أصبحت رمز الهوية الوطنية تناقلتها الأجيال جيل بعد جيل؛ لتؤكد استمرارنا على هذه الأرض دون انقطاع.
من دلعونا إلى أمير دندن، سناء موسى، وعساف، وشاهين، ودلال أبو آمنة وما بينهم من تراكم حضاري كانت فلسطين منذ العصور القديمة درة الشرق ومنارة الحضارة فيه، فاكتشاف الزراعة أدى لنشوء أول مدينة في التاريخ، وهي أريحا، إذ يعود الفضل لفلسطين أيضاً في نقل تجربة المدينة والمجتمع المدني تلك كانت بدايات هائلة لكنها شكلت أساس التفوق الفلسطيني في كل شيء .. من حق الفلسطيني أن يرفع هامته عالياً وهو الذي كان يهدي العالم تجربة التحضر والمدنية.
لم يكن محمود درويش وإميل حبيبي وتوفيق زياد وتوفيق طوبى وغسان كنفاني وغيرهم مجرد مصادفات في تاريخ عابر، ولم تكن مصادفة أن يكون معظمهم من حيفا أو أقام فيها، ولماذا حيفا بالذات التي أنتجت كل هذا الإرث الثقافي في الرواية والشعر والأدب والثقافة؟ ببساطة شديدة لأن حيفا في ثلاثينيات القرن الماضي كانت المدينة الأكثر تطوراً وأكثر تفوقاً على مثيلاتها على شاطئ المتوسط مثل الإسكندرية واللاذقية، هكذا يقول عالم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كمرلنغ في كتابه «الفلسطينيون صيرورة شعب».
كان نفط العراق يصدر من ميناء حيفا، وكانت حيفا منارة ومسرحاً ومقاهي تضاهي مثيلاتها في الغرب وهوية مفتوحة على العالم، وكان العمال في الوطن العربي يأتون إلى حيفا للعمل فيها .. كانت مدن الساحل الفلسطيني وليس الداخل مثل نابلس والخليل هي مركز الإشعاع الحضاري، وليس من المصادفة أن تحتل إسرائيل الشريط الساحلي على الرغم من أن أحداث التوراة كما تقول رواياتها كانت في الداخل لا في الساحل، وليس مصادفة أن تعيد مدينة غزة بعث الحركة الوطنية لأنها المدينة الساحلية الوحيدة التي تبقت، فكانت على موعد مع قدرها الوطني.
كثير من الحديث مدعاة للفخر عن فلسطين مدنها وقراها وتاريخها وتراثها وقدسها ومدرسة الصحافة المبكرة وإذاعة الثلاثينيات وفريق كرة القدم الذي وصل للعالمية قبل النكبة بسنوات طويلة، وسكة حديدها التي تصل للحجاز ودور السينما في يافا وحيفا ونظام التعليم المبكر الذي شكل تراثاً كانت المدرسة حنان الحروب إحدى نتاجاته الطويلة وتلك أيضاً ليست مصادفة.
فالتاريخ لا يخضع للمصادفات، وهو مبني على فعل تراكمي دائم تظهر تعبيراته في التفاصيل، والفن أحد أهم تلك التعبيرات، فليس مصادفة أن معظم النتاج الأدبي والفن العربي تركز في مصر والعراق وسورية وهي بلاد حضارات قديمة، ولولا النكبة لكانت فلسطين تسير إلى جانب تلك الدول، ومع ذلك يظهر كل هذا الأداء الفلسطيني كتواصل لتلك الحضارة العريقة.
والشيء بالشيء يذكر، فقد فشلت إسرائيل كنتاج لأوروبا الغرب في تشكيل هوية فنية غربية حتى اللحظة على الرغم من كل المحاولات، إذ إن معظم، إذا لم نقل جميع الفنانين الإسرائيليين، مثل موشيه إلياهو وحاييم موشيه وزوهر أرغوف وزهافا بن وإيال جولان وغيرهم، من أصول شرقية عربية؛ كامتداد للحضارة العربية التي عاش اليهود كجزء من مجتمعاتها. لكن في أوروبا فقد فرض الجيتو عزلتهم الطبيعية، فإذا كان فنانو فلسطين يجسدون الهوية الوطنية في اللحن والأغنية والدبكة المصاحبة للدلعونا وروح فلسطين، فإن فناني إسرائيل والغناء فيها بعيد تماماً عن روحها التي أرادت أن تكون، وهذه مسألة أخرى ونقاش آخر.
لكن السؤال الأبرز ونحن نراقب هذا التتابع الذي يشكل مفخرة لكل الفلسطينيين، كيف نسجل هذه النجاحات الفردية من عساف وحنان الحروب وأمير دندن ويعقوب شاهين وكثير من المخترعين الشباب ولكن لا نسجل نجاحاً على المستوى الجمعي والعمل الجماعي؟ هل نجحنا كأفراد وفشلنا كجماعة سياسية؟ وثانياً، لماذا نكتشف متأخرين هذه الحالات وغيرها كنتاجات متفرقة بعيدة عن المؤسسة التي نرى دورها فقط عندما يقترب هؤلاء من النجاح وكأنها تلتحق بالمركب وجميعنا يعرف أن بعض تلك الحالات لم يتم تأهيلها أو الاعتراف بها وبعضهم ربما استدان في طريقه إلى النجاح؟
لدينا من الكفاءات في جميع المجالات ما يفوق كثيراً غير هؤلاء الذين لعب معهم زهر الحظ وهؤلاء مهمشون بحاجة إلى مؤسسة تقوم برعايتهم .. كل هؤلاء بإمكانهم أن يضعوا فلسطين وشعبها على خارطة الشعوب التي استحقت الحياة بجدارة، وهذا مهم في إطار عملية التغييب الممنهج والطمس التي يمارسها الإسرائيلي .. لدينا تراث ممتد ولدينا ما نعرضه للعالم، ولكن يبدو أنه ليس لدينا من يرعى هؤلاء وتلك بحاجة إلى عمل مختلف.. نحن نتاج حضارة عريقة واستمرارها أمانة بيد القائمين عليها لا ينبغي التعاطي معها بالمصادفات .. هذه فلسطين وحضارة القوة لا تنتصر على قوة الحضارة وإن تم تنويم التاريخ صناعياً ذات مرة..!
عدد من نجوم هوليوود يدافعون بقوة عن القضية الفلسطينية
16 أكتوبر 2023