التناص، والمقدس، ونقابة الفنانين

عبد الغني سلامة
حجم الخط

كتبت الفنانة الأردنية أسماء مصطفى إعلاناً عن مسرحية لها بعنوان «ألهاكم التكاثر»، وأضافت من عندها عبارة «حتى زرتم المسارح». على الفور، قام نقيب الفنانين الأردنيين ساري الأسعد بفصلها من النقابة.. بحجة أن في ذلك استخفافاً بالدين وتطاولاً على العقيدة. وكالعادة، بدأ من يعتبرون أنفسهم حراساً على الفضيلة، ومحامين عن الإسلام بحملة مضادة على الفنانة، وصلت لحد تكفيرها.. بذريعة تجرئها على المقدس، واستخدامها آية من القرآن الكريم لأغراض غير دينية.
بداية، لا بد من التذكير بأن استخدام آيات من القرآن في كتاباتنا وأحاديثنا اليومية مسألة شائعة، سواء أتى ذلك في سياق حديث ديني، أم في سياق حديث عام.. لأن لغة القرآن ثرية وفصيحة وبليغة، ويستعذب الكثير منا الاستعانة بها لإثراء لغتهم، وتطعيمها بما هو عذب وجميل.. وليس في ذلك أي تحريف أو تطاول على القرآن، وما من أي نص شرعي يحرم ذلك.
وفي الأدب ما يعرف بالتناص؛ وهو استخدامُ نصّ أصلي (ليس للكاتب) في سياقٍ آخر مختلف، أو وجود تشابه بين نص وآخر. وتشمل العلاقات التناصية إعادة ترتيب الجملة، أو الإيماء أو التلميح المتعلق بالموضوع، أو التحويل والمحاكاة، وهو من الأساليب الأدبية المشروعة في الشعر والأدب المعاصر، وهو شيء مختلف عن السرقات الأدبية.
التناصّ ليس أمراً جديداً على البلاغة العربيّة.. وربما مثّل القرآن الكريم أحد أهمّ المصادر التي استخدمها الأدب العربي في تناصِّه. والأمثلةُ كثيرةٌ جداً. وقد ظلت البلاغةُ القرآنية مَعيناً لا ينضبُ للإبداع العربيّ بكافة أشكاله وألوانه، وليس في ذلك تجرؤ على النص المقدس، بل هو توظيف للبيان القرآني ونشره وإشاعته، وتقريبه من قلوب الناس.. وهذا الأمر من شبه المؤكد أن نقابة الفنانين على درايةٍ به. لكن المسألة أن النقابة أخذت موقفها متأثرة بالفكر السلفي المتشدد، وربما من غواية الـ»فيسبوك» بكل ما فيه من ضحالة وغوغائية. 
من ناحية ثانية، يتناقض موقف النقيب مع قوانين ورسالة وغايات النقابة، التي يُفتَرَضُ أنها أُقيمَت أصلاً لحفظ حقوق الأعضاء، والدفاع عنهم، وحماية مصالحهم، وهذا ليس تعدياً على دور النقابة، وانحرافاً عن رسالتها وحسب؛ بل وأيضاً، وربما هذا أخطر ما في القضية، انحراف عن رسالة وروح الفن أساساً، بما يعزز ثقافة التعصب والتشدد الديني، لدرجة بات فيها يصعب الفصل بين نقابة الفنانين، وما تقوم به الجماعات التكفيرية الأصولية.. أو على أقل تقدير، ما تقوم بعض أحزاب الإسلام السياسي من توظيف للدين، والترهيب باسمه.. فضلاً عن الخلل الفاضح في فهم روح وجوهر الإسلام، بوصفه ديناً حضارياً إنسانياً تقدمياً، يقدر الفنون والجمال والإبداع.
الجميع يتوقع من نقابة الفنانين أن تكون شعلة نور، ومركز إشعاع تقدمي يقف في مواجهة الفكر التعصبي والمنغلق.. أما أن يحدث العكس، فتلك خيبة أمل كبيرة، ليس في النقيب وحده، بل في كل الفنانين الذين انتخبوه، والذي من المفترض أنهم كانوا يعرفونه شخصياً، واطلعوا على برنامجه وأفكاره (التي تجلت في هذه القضية)، وإلا فإنهم لا يقلون عنه انغلاقاً وتعصباً.. وهذا ما لا نتوقعه، ولا نرجوه، لأن هذا يعني أنه إذا كانت نقابة الفنانين، التي هي نخبة وصفوة المجتمع على هذا النحو من التفكير، فكيف سيكون عامة الناس، خاصة الغوغاء منهم؟ كيف سيكون حال المجتمع حين يكون الأدباء والفنانون والشعراء والمثقفون.. من هم أعمدةُ التقدُّم والتنوير والحضارة، وروح الثقافة وضميرها وعقلُها...  امتداداً للغوغاء.. أن يتحول هؤلاء، أو بعضهم إلى «دواعش»، يحملون سيوف التكفير بيد، والخرافة باليد الأخرى؟!
باعتقادي أن المسألة ليست مجرد خلل في فهم القانون، ولا هي جهل في فهم اللغة والتناص.. المسألة في تحريم الاقتراب (مجرد اقتراب) من النصِّ المقدَّس.
أثناء عصور الظلام في أوروبا، كانت الكنيسة تحرم على الناس تعلم القراءة والكتابة، وتحرم تداول الإنجيل.. لأنها كانت تخشى من أن يطلع الناس عليه، فيكتشفوا كل هراءات وخرافات الكنيسة وتعسفها وظلمها وفسادها.. «الكهنوت الإسلامي» لم يستطع فعل ذلك، ولكنه عوضاً عن ذلك، قام بتحريم أي اقتراب من النص المقدس، واحتكره لنفسه: تأويلاً وفهماً وشرحاً.. والهدف في الحالتين هو تعميم الجهل.
أولئك الذين يمنعون «غيرهم» من الاقتراب من النص المقدس، هدفهم الإبقاء على احتكارهم للدين، واحتكارهم لشرحه وتأويله، بما يخدم ويعزز مصالحهم، أو في أحسن الأحوال خوفهم من «تفكير» الناس الذي قد يقودهم إلى ما يعتبرونه ضلالاً وبدعة وانحرافاً.. أي أنهم نصّبوا أنفسهم أوصياء على عقول الناس، وقيّمين على أفكارهم، وهم بذلك قلقون، وخائفون، ولا يثقون بقدرات الآخرين العقلية، ربما لأن إيمانهم أصلاً متزعزع وغير راسخ.. حيث لا يقوم بذلك إلا كلُّ ذي إيمانٍ ضعيف ومضطرب.
هذا التوجه، ممنهج ومدروس لدى البعض، وعفوي وتلقائي لدى البعض الآخر، ولكنه مدفوع بالهواجس والمخاوف والرغبات المختزنة في عقلهم الباطن.. والغريب، وغير المنتظر أن يأتي من نقابة فنانين!
تؤكد هذه القضية مرة أخرى، أن أخطر أنواع المتطرفين هم أولئك الذين يدّعون الفن والحداثة، الذين توحي هيئاتهم بذلك، بيد أنهم في أعماقهم تقليديون جداً، ومحافظون إلى أبعد حد، بل أصوليون إلى درجة مثيرة للشفقة.