من «الفلسطينية» غولدا إلى «اليهودي» بيبي !

حسن البطل
حجم الخط

كان أرنودو بورشغريف رئيس تحرير مجلة «نيوزويك»، ومع أولى جولات لوزير الخارجية الأميركية، لبحث تطبيق القرار 242، أجرى مقابلة مطولة مع رئيسة وزراء إسرائيل، الجدّة غولدا مائير.
رداً على سؤال: كيف تتصور حكومة إسرائيل انسحابها من أراض عربية احتلتها في حرب الأيام الستة، إلى «حدود آمنة ومعترف بها» رفضت مائير إعطاء جواب محدد، وقالت: «نحن ما نحن عليه»، وعن تصورها لحل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، قالت: «لا يوجد هناك ما يسمى بفلسطينيين.. أنا الفلسطينية» فقد ولدت قبل إعلان إسرائيل.
آنذاك، كان وزير دفاعها، موشي دايان يقول، عن «حرب التحرير» الثانية لسائر ارض فلسطين، باعتباره «حق الفتح» أو الغزو، وليس كما صاروا، لاحقاً، في إسرائيل باعتباره حقاً تاريخياً وتوراتياً، كما تدّعي، الآن، بعض أحزاب الائتلاف الحكومي.
سياسة «نحن ما نحن عليه» شملت رفض إسرائيل الانسحاب من ضفاف قناة السويس كيلو مترات محدودة، لإعادة فتحها، وكذا سياسة دايان: «شرم الشيخ بلا سلام أحسن من سلام بلا شرم الشيخ»، تحطمت في حرب أكتوبر 1973، ومع الانتفاضة الأولى وأوسلو سقط الادعاء «لا يوجد ما يسمى بفلسطينيين».
صحيح، أن السنوات الخمس الأوسلوية تطاولت أكثر من عقدين، دون التوصل لاتفاق على الوضع النهائي، ولا مقارنة بين حال الاستيطان في سنوات الاحتلال الأولى وحاله الآن، لكن خلالها نجح الفلسطينيون وسلطتهم في المزاوجة بين حق تقرير المصير وبين الشرعية الدولية ومشاريع حل الصراع في صيغة «الحل بدولتين» كما في آخر قرارات مجلس الأمن لعام 2016، الموسوم بالقرار 2334.
منذ العام 2001 تعددت مشاريع «الحل بدولتين» دون نجاح، باستثناء اعتراف غالبية أعضاء الأمم المتحدة بدولة فلسطين غير العضو، ورفضت إسرائيل صفقة مشروع السلام العربي بالاعتراف بها، مقابل الانسحاب وإقامة دولة فلسطينية.
مع بداية السنة الخمسين للاحتلال، وإدارة أميركية جديدة، سياستها المعلنة: «دولتان أو دولة واحدة» تنصل رئيس الوزراء نتنياهو من موافقة، غامضة وملتبسة، على حل الدولتين، دون أن يتخلى عن معارضته للشروط الدولية والفلسطينية، سواء لحل الدولتين أو الدولة الواحدة.
كان نتنياهو قد تنصّل في ولايته الأولى من اتفاق على تمديد أجل السنوات الأوسلوية الخمس في قمة «واي ريفر» 1998، يشكل نبضة ثالثة والانسحاب من 11,1%، وفي ولاية ثانية رفض خطة أمنية مفصلة أعدها جنرالات بقيادة جون ألن لأمن إسرائيل بمشاركة أمنية أميركية أو أطلسية، وفي ولاية ثالثة عطّل مشروعاً أمنياً ـ سياسياً قاده جون كيري طيلة تسعة شهور انتهت في نيسان 2014 إلى الفشل.
...وأخيراً، عرقل «قمة سرية» لحل إقليمي مع الأردن ومصر بحضور كيري، وقدم خطة مضادة، ردت عليها مصر والأردن بتأكيد مشروع «الحل بدولتين»، بينما خيّر الرئيس ترامب الفلسطينيين والإسرائيليين أن يتفقوا على أي حل سوف يسعد الإدارة الأميركية.
... وأخيراً، أفصح نتنياهو عن تجديد في سياسة «نحن ما نحن عليه» في استراليا، وصيغته ذات شقين. واحد حول استمرار سيطرة إسرائيلية أمنية كاملة وتامة، وغير محددة الأجل، على الضفة الغربية، مع سيادة فلسطينية جزئية ومحدودة، أي حكم ذاتي، ونشر قوات دولية في قطاع غزة.
كعادته، نفى مصدر مقرّب منه أن يكون هو الذي اقترح نزع سلاح غزة، وأن الاقتراح جاء من طرف استرالي؟!
واضح أن الاقتراح حول غزة غير واقعي عملياً، لأن نشر قوات دولية تشترط موافقة سلطة الأمر الواقع في غزة، إلاّ إذا كانت قوات رمزية تنتشر على الحدود الفاصلة، كما حال القوات الدولية في جنوب لبنان، عدا عن أن أي دولة لا تريد إرسال قوات تصطدم مع عشرات آلاف المسلحين في قطاع غزة.
إن نفي مصدر مقرب من نتنياهو لأمن إسرائيل مع غزة، يتعلق برفض أطراف في حكومته أي مشروع يتضمن سيادة فلسطينية، ولو كانت جزئية، في الضفة، أو كانت نتيجتها العملية دولة منقوصة السيادة وغير متواصلة.
كانت إسرائيل رفضت أفكاراً أميركية لدور قوات دولية أو أميركية في تأمين الضفة الغربية على الحدود مع الأردن، أو انتشار في بعض الأماكن الاستراتيجية لفترة محدودة.
لو أن الفكرة هي سيطرة أمنية إسرائيلية كاملة لكن محدودة الأجل، وسيادة فلسطينية على سائر الضفة الغربية، وإلغاء تقسيمها إلى أ.ب.ج  لكان من الممكن أن تحظى بموافقة دولية، وربما بقبول ضمني فلسطيني على نقاشها وشروطها.
قيل إن نتنياهو لم يوافق على خطة قمة العقبة السرية الأمنية ـ السياسية، لأن نتيجتها هي «حل الدولتين وهذا سيؤدي إلى انفراط عقد الائتلاف الحالي، لكن الذريعة غير الواقعية، لأنه يمكنه البقاء رئيساً للحكومة، مع استبدال «البيت اليهودي» ومقاعده الثمانية بـ»الاتحاد الصهيوني» ومقاعده الـ24.
بالفعل وافق رئيس «الاتحاد الصهيوني» اسحاق هيرتسوغ على ذلك، ثم اقترح بعد ذلك خطة من عشر نقاط، على مدى عشر سنوات، قبل تطبيق «الحل بدولتين»؟!
إن لحل الدولتين شروطه الدولية والفلسطينية، ولحل الدولة الواحدة شروطه الفلسطينية، بينما رئيس الوزراء الإسرائيلي يعارض كلا الأمرين، ويرى في الخيار الأول خطراً على أمن إسرائيل وفي الثاني خطراً أكبر على هُويّتها اليهودية وديمقراطيتها العنصرية.
انسحاب ترامب من الحل الدولي «حل الدولتين» مكّن نتنياهو من طرح أفكاره غير الواقعية التي من شأنها التنصُّل من هذا الحل أو ذاك الحل.
مرّ نصف قرن منذ شعار غولدا مائير «نحن ما نحن عليه» ولم يعد هذا الشعار سارياً على واقع الفلسطينيين والإسرائيليين.. ودول العالم.
فلسطين حقيقة سياسية دولية، وإسرائيل حقيقة سياسية وسيادية دولية!
بدلاً من كتف عربي رخو، صارت فلسطين صخرة على صدر إسرائيل.