التظاهرة الاحتجاجية التي قادها التحالف اليساري القومي ضد سياسات الحكومة الأردنية، يوم الجمعة 24 شباط، في شارع مجمع النقابات المهنية، أدت الواجب، وأوصلت الرسالة، فالحضور المشارك نوعي، قيادي، رفيع التهذيب والمستوى والشعار، فقد تعلموا الدرس أن الشعارات الطنانة الجوفاء، لا تُغذي سوى فارغي المضمون، فاقدي العزيمة والقدرة، اتكاليي الفعل، أما أصحاب الفعل فهم أدرى باحتياجاتهم لتحقيق الفعل ومراكمته التدريجية، والانخراط بين صفوف الناس ومساماتهم، عبر تسييسهم وتجنيدهم في أحزاب ومؤسسات مجتمع مدني، حيث يكون لصوتهم الأثر المطلوب بالفعل، وأفعالهم المطلوبة تُقاس بمدى نفوذهم في النقابات المهنية والعمالية، ولدى رؤساء ومجالس البلديات، وفي حجم حضورهم لدى مجلس النواب، أي في مؤسسات صنع القرار الشعبي، نتاج إفرازات صناديق الاقتراع .
عزيمة القوميين واليساريين ما زالت متدفقة رغم الظروف الذاتية المتمثلة بكبر أعمارهم وضعف تأثيرهم، والموضوعية خارج إرادتهم التي تمثلت بهزيمة الربيع العربي، على يد الطرفين أولهما قوى الشد العكسي التي منعت مسار التغيير رغم سقوط قادة الأنظمة التي اجتاحها الربيع العربي باستثناء سورية، وثانيهما بسبب قوة أحزاب التيار الإسلامي التي سبق وأن كانت حليفاً للنظام التقليدي ولقوى الشد العكسي، فانفضت عنها، وخطفت نضال الناس واستولت عليه، ودمرت ما صنعته الشعوب بعرق جبينها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخربت نضال الشعوب العربية وتضحياتها، وقطعت الطريق على طموح حركة التحرر العربية نحو استكمال خطوات الاستقلال السياسي والاقتصادي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإشاعة الديمقراطية، والاحتكام إلى نتائج صناديق الاقتراع، وتداول السلطة .
كل هذا الطموح تم إحباطه، بفعل جرف مسار ثورة الربيع العربي المدنية الديمقراطية، نحو التطرف والإرهاب وتسط أحزاب التيار الإسلامي الأربعة: الإخوان المسلمين، أحزاب ولاية الفقيه، داعش والقاعدة، والاستيلاء على مقدرات الثورة وشارعها وقيادتها نحو الهزيمة والاندحار والتخلف.
من هنا قيمة ما يفعله تيارا اليسار والقومية في بناء حالة جماهيرية مسيسة معتدلة واقعية، فالذين حاولوا رفع شعار « إسقاط الحكومة « تم التصدي لهم، ليس محبة بالحكومة أو للتمسك بمواصلة شرعيتها، بل لأن هذا الشعار المستهلك لم يعد مستساغاً ولم يعد مطلوباً، فالمطلوب تغيير النهج، تغيير البرامج، وتبديل السياسات التي أدت إلى الكوارث التي نعيشها ونعاني منها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وهي نتاج العجز بالموازنة وأثقال المديونية.
تظاهرة القوى السياسية القومية واليسارية أدت وظيفتها، ورسالتها الاحتجاجية، بتفاهم ورضى، وقالوا ما قالوه، وهذا كاف وفق المعطيات المتوفرة، واعتماداً على الموازين المتاحة، والمناخ السائد، إضافة إلى هذه الخلاصة السياسية، فثمة معطى آخر، تمت ملاحظته ويستأهل التوقف وهو توسيع قاعدة الشراكة السياسية، بحضور ومشاركة قوى قومية ويسارية أخرى، ممثلة بالحزب الديمقراطي الاجتماعي، والتيار القومي التقدمي، وحركة معاً، ما يستوجب حقاً توسيع التفاهم اليساري القومي، ليصار إلى المزيد من نقاط المشاركة وعناوين التوافق وقضايا النشاط، تعزيزاً للتعددية المطلوبة، وتوسيع قواعد المشاركة مع شخصيات واتجاهات وقوى تملك الحد الأدنى من الحضور والمعقولية والواقعية والاتزان السياسي، بما يستوجب كسب شراكتهم، بدون التسرع لطرح قيام جبهة وطنية أو غيرها من المسميات المستعجلة المحبطة كما حصل في تجربة الجبهة الوطنية التي تشكلت من الإخوان المسلمين، والنقابات المهنية، والأحزاب القومية واليسارية، ومجموعة أحمد عبيدات وفشلت، فالقيادة المتزنة التي يُمثلها أكرم الحمصي وعبلة أبو علبة وفرج الطميزي وفؤاد دبور وسعيد ذياب، عليها واجب إدراك ضرورة توسيع قاعدة الشراكة ليكون تحالف اليسار مع التيار القومي قوياً بما يستحق الرهان عليه، ومتماسكاً بما يجب الركون إليه.
الضعف الذي تُعاني منه الأحزاب القومية واليسارية، ليس نهائياً ودائماً، ولكنه حتى يختزل عوامل الزمن وصولاً لدور مؤثر ينتظره يحتاج لعاملين أساسيين : أولهما تعميق التوسع التنظيمي، والاهتمام بالشبيبة أداة التواصل وصنع المستقبل، وثانيهما التواضع والعمل بروح ودوافع جبهوية أي لا يكون الشعور والممارسة لدى كل حزب على أنه البديل عن الآخرين، وأنه أفضل منهم، بل يكون الشعور السائد والممارسة الفعلية يقومان على أساس أن الحزب هو مكمل للآخرين وليس بديلاً عنهم، بهذين المفهومين ناصعي العمل الجبهوي المحافظ على التعددية يمكن أن يكون للحركة السياسية الأردنية مكانتها اللائقة، عبر تعميق مكانة كل حزب بين صفوف الناس، وأن تكون علاقة كل حزب مع الأحزاب الأخرى علاقة جبهوية تكاملية، بعيداً عن الأنانية والتفرد والإحساس أنه أفضل من الآخرين، بل هو مكمل لهم، بذلك تضع الحركة السياسية الأردنية وشعبنا من خلالهم أقدامها على سكة الطريق الصحيح الموصل للهدف، لأن يكون للأحزاب مكانتها وقوتها والاختبار المقبل هو الانتخابات في محطاتها الثلاثة : 1- الانتخابات البلدية، 2- انتخابات مجالس المحافظات، 3- انتخابات مجلس النواب، ليكون للأردنيين حقاً قاعدة حزبية متينة، تجعل من مشاركتهم قوة وتأثيرا على أصحاب القرار في مؤسسات صنع القرار المنتخبة.