الصباح يبسط ظلّه على الأشياء ، ماراً بتلك المساحة التي لا تعرف الهدوء ..منذ أن تستيقظ المدينة من نومها ، إلى أن تعود إليهِ قبيل ساعات الفجر بقليل ، حيث حركة الحافلات النشطة في هذه المحطة تكون في أوجها في مثل تلك الساعات من النهار .
خليط من الروائح والأمزجة والدخان تعبر المكان ...
أفراد من شرطة المرور ، جنود يمرّون متفرسين في الوجوه المارّة ، عمال ، موظفون ..طلاب ..باعة صحف
وبائعات من القرى المجاورة يحملن بعض الفاكهة والخضار ..
ركاب يتناثرون فوق المقاعد الخشبية في انتظار الحافلات لتنقلهم مِن وإلى ضواحي المدينة وأحيائها ..وبعض البلدات المجاورة لها ...
وجوه مُتعبة ..لا تلتفت إلى ما حولها لكثرة ما اعتادت تفاصيل المشهد حتى ألِفتْه ..
وغير بعيد تقف امرأة رثة الهيئة ..في عينيها الواسعتين تتناسل الشمس والتراب ، وفي ملامحها سكينة بائسة .. كتلك الطمأنينة الخرساء التي تسكن الخرائب ، وبجوارها طفل لايكاد يتعدى السابعة ، في عينيه الذابلتين تعبير شريد ..يعاني شظف الحرمان ..
وعلى بعد أمتار وقفتْ طفلة أسَرَّتْ في عينيها كل الأشياء الجميلة ، تعلو خديها حُمرة التفاح ..وعلى فستانها السّماويّ غنّى الربيع ..ورقص الفَراش , وبين أصابعها الصغيرة تعلّق عنقود عنبٍ مكتنز الحلاوة شفاف الحبات ..
كانت تأكل والطفل يأكل معها بعينيهِ ..نظراته تراقبها في نهمٍ جائع ..
ترفع الطفلة عينيها ..تحدجه بنظرة باردة غير مبالية ...ثم تُفتبعها بأخرى متسائلة ..وهو يرقبها بصبر صيادٍ لا يملك غير الإنتظار ...إنتظار لشيء مجهول لا يعرف كنهَه .وكلما كبُرت في عينيهِ اللّهفة ..كبُر في عينيها التساول والإستغراب ..
وفجأة تسقط من بين أصابعها حبة عنب متدحرجة بين الأقدام لِتستقر على أرضية الرصيف ، فيقفز خلفها محاولاً التقاطها ..لكن إحدى الأقدام المارة كانت أسرع منه في سحقها ..دون انتباه ..
يُحدّق في جثة الحبة المُشتهاة ...ويعود أدراجه وقد كست وجهه غلالة حزن قاتمة ، بينما عيناه تفيضان بسيلٍ من مرّ الكلام ..
يلتصق بالمرأة ..يقول لها شيئاً ما ..تبتعد عنه قليلاً ..ترفع يدها في وجههِ وهي ترد عليه بطريقة توحي بأنها تُشعرهُ بشكل ما ..أن ليس كل ما حوله من حقهِ ..وأن يدها قصيرة ..حتى لو كانت عينه بصيرة ...!
يعود بِنظراتهِ نحو الطفلة التي كانت تمسك بيد أمها متجهتيْن نحو الحافلة ..وقد اختفى العنب من بين أصابعها الصغيرة ..و..لم يُصدّق عينيهِ ..هاهو العنب هناك فوق المقعد الخشبي حيث كانت تجلس الطفلة ..
وكالمجنون يقفز من مكانهِ متجهاً نحوه ...لكنه ...لِفرط سرعتهِ يتعثّر بحافة الرصيف المهشّم ، ويسقط على ركبتيْهِ فوق الحواف الناتئة ..يتألم ..يكاد يبكي ..لكنه يتحامل على ألمهِ وينهض ..غير آبهٍ بالأحمر الساخن الذي سال من ركبتهِ على قصبة الساق بغزارة .
دقيقة وبضع ثوانٍ استغرقتْها القفزة والسقطة ..لكنها كانت كافية كي تجعل بقايا العنب تستقر في عربة عامل النظافة الذي مرّ بالمكان في تلك اللحظة ..!