المتوكل طه " أمام المرآة "

المتوكل طه " أمام المرآة "
حجم الخط

كنتُ على الزِّئبقِ صورةَ رجلٍ ، يتَزَيّا بالعينينِ الثاقِبَتينِ ..

 

ولم أرَ نَفْسي !

 

لا أعلمُ ! لكنّي مثل هواءٍ يدخلُ في كلِّ الغُرفِ ، وبين الأشجارِ ، وأبحثُ عن صورةِ شخصٍ ضاعَ قديماً منّي .

 

وبحثتُ لعلّي ألقاهُ هنا ، أو بين الغيمِ ، وفوقَ البَرْقِ ، وتحتَ البحرِ ،

 

وفي النّرجسةِ الذهبيّةِ ،

 

ثمّ سمعتُ نداءَ النّايِ يهبُّ إليَّ ، فَغَنّيتُ، ليعرفَ أنّي المقصودُ ..

 

ولمّا رُحتُ أَخبُّ إليهِ .. سمعتُ بكاءَ الأغصانِ العاريةِ ، فكانَ الصمتُ على السطحِ المصقولِ ، وما مِن وَجْهٍ في المرآة !

 

وحتى الساعة لم أرَ أحداً !!

 

لكنّي أحسَسْتُ بأنّ الفضةَ تهْجِسُ ، خلفَ السّطحِ ، بشئٍ يتراءى مثل الشَبَحِ ، وينبضُ مثل الحُلُمِ ، فتابعتُ معالِمَهُ ،

 

فانغلقَ المشْهَدُ عن لا شئ !

 

فقلتُ ؛ لعلّي ، بأصابعِ قلبي ألمسُ ما يتقافزُ مثل الماءِ ، على هذي المفرودةِ للحُسْنِ ،

 

فما كان سوى العَدَمِ الأبيضَ في المرآة !

 

ونظرتُ إليها ثانيةً ، فرأيتُ قوافلَ نهرٍ تحملُ هودَجَها المسْحورَ،

 

على أرضِ الأوهامِ ، وثمةَ عوسَجةٌ تتغذّى في الظلِّ ، وفرسانٌ يبكونَ ، وسيفٌ من حَجرٍ مَشْحوذٍ مُلقىً في الرّملِ ، وبعضُ غلالاتٍ في الريحِ ،

 

وكان الناسُ يسيرون على وَقْعِ الحادي المَخفيِّ وراءَ النوقِ ..

 

فقلتُ ؛ لعلّي أتَوَهّمُ !؟

 

لكنَّ الرَجْعَ الرمليَّ يدفُّ بأُذْني ، مثل هواءِ الرّيشِ على النَسَمات .

 

وحدَّقتُ مليّاً ؛ فرأيتُ قِباباً من وَجَعٍ يسحقُها الرّعدُ الوثنيُّ ،

 

فيصعدُ طفلٌ فوقَ الأسوارِ ، ويرمي نجمتَهُ الناريّةَ

 

أو ساحلَ بلدتهِ ..

 

فتثورُ الرَقَصاتُ الوحشيّةُ في الرّايات .

 

وبعيداً عن ذلك ؛ كان الليلُ المالحُ يبتلعُ اللاجئَ والقارِبَ في خوفِ المنفى ..

 

فَتُنادي الشامُ على أبناءِ النّارنْجِ ، ولا يسمعها أحدٌ !!

 

فالعَالَمُ يتَسلّى بالألعابِ الناريّةِ ، فتضيءُ شواطئَ مَن ماتوا غَرَقاً .. ونرى طفلاً ينكفئُ على الزّبَدِ ، تَكلَّسَ من ثلجِ الماءِ ، وغارَتْ أُسْرَتُه في بطْنِ الحوتِ ..

 

فَيَا سُكَّرَ هذا الجَزْرِ القاتلِ ! ضِقْنا بالنَّحْلِ ، فَخُذْنا لِمَجَرّاتِ الزَّهْرِ

 

على البَتَلات .

 

وعلى ضِفّةِ دِجلةَ ، كانتْ زوبعةُ التفجيرِ تُوَزِّعُ في الأركانِ شظايا الأُخوةِ ، مَن رفعوا السّعفَ النخليّةَ فوقَ شواهِدهِم ، سلفاً ، إذْ لَجّوا في التأويلِ الدمويِّ ، فصاروا القاتلَ والمقتولَ وتابوتَ الويلات.

 

وقلتُ ؛ ساكشفُ هذا الغَبَشَ الناعمَ ، وأرى ما يَكْمنُ خلفَ المرآةِ ، فأمْعنْتُ بعيداً في الهوِّ المَجلِيِّ .. فما كان سوى النّملِ ، يدورُ وئيداً ، ويغطّي كلَّ الطرقات ..

 

وأحسسْتُ بأنَّ دبيبَ الخطواتِ يخرُّ لهيباً في الشريانِ ، وغَذَّ سريعاً في الأوصالِ ..

 

توَهَّجَ !

 

فاحْمَرَّ السطحُ ، من الكَرَزِ النابعِ ، مِن خلفِ المرآةِ

 

على المرآة .

 

تلوَّنَ وَجْهُ الواقفةِ أمامي ، فتدَفَّقَ جفني بَدمٍ ، مثل الجرحِ السّاخنِ ،

 

فمَسحتُ بكَفّي خيطَ السّائلِ منّي ، وَذُعِرتُ ، لأنّ اللهبَ المطحونَ بصدري ، سالَ بكلِّ لزوجَتِه الفوّارةِ ، فوقَ خدودي ،

 

فاتّشَحَتْ مرآةُ النّاظِرِ بالعَبَرات .

 

وقُدّام المرآة : ترى مَن غابوا عنكَ،

 

ولا تلحظ غيرَ فراغٍ فيكَ ،

 

وتعرف أنّكَ لستَ الممشوقَ المُبتَسمَ أو المُكتَئِبَ،

 

فثمةَ ما يتناسَخُ منكَ ؛ طيوراً وظِلالاً وكُهوفاً سادِرةً في العتمةِ ، منذُ ملايين السنوات .

 

وإنْ أدركتَ ملامِحَكَ البشريةَ ، وعلمتَ بأنّكَ أنتَ المطبوعُ على الصفحةِ ، فاعلمْ أنَّكَ غيرُكُ .. في هذي القَسَمات !

 

فأنتَ غريبٌ حتى عن ذاتِكَ ،

 

فهل ستُعيدُ المرآةُ إليكَ الضائعَ منكَ ؟

 

سؤالٌ يتوتّرُ مثل المِثْقابِ برأسِكَ ، لكنَّ إجابَتَهُ المُمْكِنَةَ ..

 

بلا كلمات .

 

وأمْعنْتُ النَّظَرَ ، فطالعني الرجلُ ! فَصِحْتُ ، ليسمعني .. لكنّي حين صرختُ ارتَجفَ ، وكَشَّرَ في وجهي .. وأجاب : لماذا تصرخُ يا هذا ؟ مَن أنتَ ؟ وماذا تبغي منّي ؟

 

قلتُ : ..

 

فقاطَعَني بيديهِ الغاضِبتينِ ..

 

اسمعني !!

 

فأشاحَ وَرَدَّ عباءَتَه الشقراءَ على كتفيهِ .. وغاب ..

 

وغامَتْ في صوتي الكلمات .

 

وبَحْلقْتُ عميقاً في المرآةِ ، فما كان سواي هناك !! وقلتُ لنفسي ؛ اهدَأ ! هذا أنتَ ؛

 

ملامِحُ بركانٍ في هيئةِ رَجُلٍ ،

 

أو طوفانٌ نُوحيٌ يتعاظَمُ فوقَ جبالِ الموجِ ،

 

وغاباتٌ من بَلحٍ نبويٍّ ،

 

وغَزالٌ يلهَثُ فوقَ النَّصْلِ ،

 

وعُشبٌ يلتفُّ على سِيقانِ الشمسِ ،

 

وشَهْدٌ مِن فَرْوِ الوَشَقِ البَرّيِّ ،

 

ودَفْقةُ منديلِ المذبوحِ ،

 

وزَفَّةُ شِنّارِ التلّات .

 

ونظرتُ إليها ثانيةً .. فطالَعَني الرّجلُ ، وقال : أتعرفني ؟!

 

قلتُ : بلا ، وجْهُكَ مرآةُ المرآة .