كنتُ على الزِّئبقِ صورةَ رجلٍ ، يتَزَيّا بالعينينِ الثاقِبَتينِ ..
ولم أرَ نَفْسي !
لا أعلمُ ! لكنّي مثل هواءٍ يدخلُ في كلِّ الغُرفِ ، وبين الأشجارِ ، وأبحثُ عن صورةِ شخصٍ ضاعَ قديماً منّي .
وبحثتُ لعلّي ألقاهُ هنا ، أو بين الغيمِ ، وفوقَ البَرْقِ ، وتحتَ البحرِ ،
وفي النّرجسةِ الذهبيّةِ ،
ثمّ سمعتُ نداءَ النّايِ يهبُّ إليَّ ، فَغَنّيتُ، ليعرفَ أنّي المقصودُ ..
ولمّا رُحتُ أَخبُّ إليهِ .. سمعتُ بكاءَ الأغصانِ العاريةِ ، فكانَ الصمتُ على السطحِ المصقولِ ، وما مِن وَجْهٍ في المرآة !
وحتى الساعة لم أرَ أحداً !!
لكنّي أحسَسْتُ بأنّ الفضةَ تهْجِسُ ، خلفَ السّطحِ ، بشئٍ يتراءى مثل الشَبَحِ ، وينبضُ مثل الحُلُمِ ، فتابعتُ معالِمَهُ ،
فانغلقَ المشْهَدُ عن لا شئ !
فقلتُ ؛ لعلّي ، بأصابعِ قلبي ألمسُ ما يتقافزُ مثل الماءِ ، على هذي المفرودةِ للحُسْنِ ،
فما كان سوى العَدَمِ الأبيضَ في المرآة !
ونظرتُ إليها ثانيةً ، فرأيتُ قوافلَ نهرٍ تحملُ هودَجَها المسْحورَ،
على أرضِ الأوهامِ ، وثمةَ عوسَجةٌ تتغذّى في الظلِّ ، وفرسانٌ يبكونَ ، وسيفٌ من حَجرٍ مَشْحوذٍ مُلقىً في الرّملِ ، وبعضُ غلالاتٍ في الريحِ ،
وكان الناسُ يسيرون على وَقْعِ الحادي المَخفيِّ وراءَ النوقِ ..
فقلتُ ؛ لعلّي أتَوَهّمُ !؟
لكنَّ الرَجْعَ الرمليَّ يدفُّ بأُذْني ، مثل هواءِ الرّيشِ على النَسَمات .
وحدَّقتُ مليّاً ؛ فرأيتُ قِباباً من وَجَعٍ يسحقُها الرّعدُ الوثنيُّ ،
فيصعدُ طفلٌ فوقَ الأسوارِ ، ويرمي نجمتَهُ الناريّةَ
أو ساحلَ بلدتهِ ..
فتثورُ الرَقَصاتُ الوحشيّةُ في الرّايات .
وبعيداً عن ذلك ؛ كان الليلُ المالحُ يبتلعُ اللاجئَ والقارِبَ في خوفِ المنفى ..
فَتُنادي الشامُ على أبناءِ النّارنْجِ ، ولا يسمعها أحدٌ !!
فالعَالَمُ يتَسلّى بالألعابِ الناريّةِ ، فتضيءُ شواطئَ مَن ماتوا غَرَقاً .. ونرى طفلاً ينكفئُ على الزّبَدِ ، تَكلَّسَ من ثلجِ الماءِ ، وغارَتْ أُسْرَتُه في بطْنِ الحوتِ ..
فَيَا سُكَّرَ هذا الجَزْرِ القاتلِ ! ضِقْنا بالنَّحْلِ ، فَخُذْنا لِمَجَرّاتِ الزَّهْرِ
على البَتَلات .
وعلى ضِفّةِ دِجلةَ ، كانتْ زوبعةُ التفجيرِ تُوَزِّعُ في الأركانِ شظايا الأُخوةِ ، مَن رفعوا السّعفَ النخليّةَ فوقَ شواهِدهِم ، سلفاً ، إذْ لَجّوا في التأويلِ الدمويِّ ، فصاروا القاتلَ والمقتولَ وتابوتَ الويلات.
وقلتُ ؛ ساكشفُ هذا الغَبَشَ الناعمَ ، وأرى ما يَكْمنُ خلفَ المرآةِ ، فأمْعنْتُ بعيداً في الهوِّ المَجلِيِّ .. فما كان سوى النّملِ ، يدورُ وئيداً ، ويغطّي كلَّ الطرقات ..
وأحسسْتُ بأنَّ دبيبَ الخطواتِ يخرُّ لهيباً في الشريانِ ، وغَذَّ سريعاً في الأوصالِ ..
توَهَّجَ !
فاحْمَرَّ السطحُ ، من الكَرَزِ النابعِ ، مِن خلفِ المرآةِ
على المرآة .
تلوَّنَ وَجْهُ الواقفةِ أمامي ، فتدَفَّقَ جفني بَدمٍ ، مثل الجرحِ السّاخنِ ،
فمَسحتُ بكَفّي خيطَ السّائلِ منّي ، وَذُعِرتُ ، لأنّ اللهبَ المطحونَ بصدري ، سالَ بكلِّ لزوجَتِه الفوّارةِ ، فوقَ خدودي ،
فاتّشَحَتْ مرآةُ النّاظِرِ بالعَبَرات .
وقُدّام المرآة : ترى مَن غابوا عنكَ،
ولا تلحظ غيرَ فراغٍ فيكَ ،
وتعرف أنّكَ لستَ الممشوقَ المُبتَسمَ أو المُكتَئِبَ،
فثمةَ ما يتناسَخُ منكَ ؛ طيوراً وظِلالاً وكُهوفاً سادِرةً في العتمةِ ، منذُ ملايين السنوات .
وإنْ أدركتَ ملامِحَكَ البشريةَ ، وعلمتَ بأنّكَ أنتَ المطبوعُ على الصفحةِ ، فاعلمْ أنَّكَ غيرُكُ .. في هذي القَسَمات !
فأنتَ غريبٌ حتى عن ذاتِكَ ،
فهل ستُعيدُ المرآةُ إليكَ الضائعَ منكَ ؟
سؤالٌ يتوتّرُ مثل المِثْقابِ برأسِكَ ، لكنَّ إجابَتَهُ المُمْكِنَةَ ..
بلا كلمات .
وأمْعنْتُ النَّظَرَ ، فطالعني الرجلُ ! فَصِحْتُ ، ليسمعني .. لكنّي حين صرختُ ارتَجفَ ، وكَشَّرَ في وجهي .. وأجاب : لماذا تصرخُ يا هذا ؟ مَن أنتَ ؟ وماذا تبغي منّي ؟
قلتُ : ..
فقاطَعَني بيديهِ الغاضِبتينِ ..
اسمعني !!
فأشاحَ وَرَدَّ عباءَتَه الشقراءَ على كتفيهِ .. وغاب ..
وغامَتْ في صوتي الكلمات .
وبَحْلقْتُ عميقاً في المرآةِ ، فما كان سواي هناك !! وقلتُ لنفسي ؛ اهدَأ ! هذا أنتَ ؛
ملامِحُ بركانٍ في هيئةِ رَجُلٍ ،
أو طوفانٌ نُوحيٌ يتعاظَمُ فوقَ جبالِ الموجِ ،
وغاباتٌ من بَلحٍ نبويٍّ ،
وغَزالٌ يلهَثُ فوقَ النَّصْلِ ،
وعُشبٌ يلتفُّ على سِيقانِ الشمسِ ،
وشَهْدٌ مِن فَرْوِ الوَشَقِ البَرّيِّ ،
ودَفْقةُ منديلِ المذبوحِ ،
وزَفَّةُ شِنّارِ التلّات .
ونظرتُ إليها ثانيةً .. فطالَعَني الرّجلُ ، وقال : أتعرفني ؟!
قلتُ : بلا ، وجْهُكَ مرآةُ المرآة .