قرأتُ الطبعة الثانية لرواية " حصرم الجنة" للكاتب الفلسطيني عاطف أبو سيف ، الصّادرة عن مؤسسّة "الأهلية" للنشر والتوزيع الأردنيّة وتحتوي على 197 صفحة من الحجم المتوسط ، لوحة الغلاف : جيم وارن/الولايات المتحدة الأمريكيّة.
عاطف أبو سيف هو روائي فلسطيني من مواليد مخيم جباليا قطاع غزة عام 1973، ابن لعائلة هُجّرَت من يافا، وليافا حضور جليّ عبر صفحات الرواية، صدرت له أربع روايات أخرى : ظلال في الذاكرة ، حكاية ليلة سامر، كرة ثلج، حياة معلقة والحاجة كريستينا، بالإضافة إلى كتابات أخرى .
إنها رواية شبيهة بالسيرة الذاتية لطفل يعيش في مخيم جباليا للاجئين في قطاع غزة قسمها إلى 29 فصلًا وعنوانًا يتناول كل منها موضوعًا آخر عاشه بطل الرواية، يروي خلالها حكايا جيل الكبار ممن انتكبوا فتحدثه أمه عن سقوط آدم وحواء من الجنة، آلا وهي يافا وتهجير أهلها واقتلاعهم منها، وكيف أكل آدم التفاحة التي يصرّ بطل الرواية أنه أكل الحصرم وليس التفاحة، حين كان طفلًا وبعدما كبر، لأنه يحب الحصرم ! للحصرم طعم المرارة والحموضة وحياة الفلسطيني تحوله إلى ما يشبه هذا الطعم بعد اللجوء وفقدان الوطن. ويبقى الحصرم وطعمه المفضّل لديه "أقطف بكارتها ... جسدها أكثر فتنة من قطف الحصرم" (ص 134).
تدور أحداث الرواية في مخيّمات اللاجئين في قطاع غزة، في يافا الذاكرة المشتهاة الحاضرة مع أبو درويش والوالدين والجد وفي العالم الكبير الذي يحلم به الغزيّون.
ما أصعب أن نعيش في وطن لا نحلم فيه سوى بمغادرته !
يتحسّر الكاتب على "هجرة" الأهل وتشتتهم فهاجر جميع أخوة أبيه والأعمام ليعيشوا في الخارج ولا يستطيعون حضور العرس لأخيهم، وأخوال صديقه محمد في الأردن وأولاد صاحب الكرم سافروا إلى بلاد مختلفة ورغم ذلك يحلم الجميع بالخروج من الغيتو الغزّي المُحاصر فالشاب مهووس بفكرة السفر من غزة إلى مكان آخر في العالم (ص 14)، فالجميع يحلم بالرحيل عن غزة "كلهم مثلي خائفون. يسكنهم الرعب مثل العنكبوت. يحلمون بالرحيل بعيدًا. يتخيلون خبط أجنحتهم حين يحلقون فوق بحر غزة، إلى مجهولٍ جديد، لا يهم إلى أين، المهم بعيدًا عن المكان" (ص 69)، ويصرخ "كنت أعدّ الأيام على أصابع يدي لأسافر بعيدًا. أقول : قرفت غزة، وقرفت فلسطين، وقرفت المخيم، وقرفت جيراني، وأصدقائي. صورتي في المرآة. كل شيء. أريد أن أهاجر"( ص77)، وصديقته تحلم بتأشيرة دخول إلى عالم أقل فضولًا كما كانت تقول ، وهو يحلم باللحظة التي ستخفق فيها أجنحته فوق بحر غزة فالحلم المشترك هو الهجرة إلى أي مكان .
أوافق عاطف بأنه كي تكونِ أديبًا عليك أن تكون مثقّفًا، وعاطف نِعمَ المُثقّف ، فأخذني معه بسلاسة ولباقة عبر الأساطير فلجأ إلى الأساطير اليونانية والبابليّة والكنعانيّة والعربيّة ووظّفها ليحلّق معها إلى عالم آخر يحلم به ، نجده موفّقا عندما استحضر اسطورة جلجامش الذي يبحث عن الخلد، أخذني معه عبر الفلسفة العالمية مع مدام بوفاري تقف بكامل دلعها وغنجها وهي تضطر لتجاهل ليون ثم تتدفأ على ألمها وهي تتذكره وجيمس جويس مع لحظة الاستكشاف (لحظة يرى المرء شيئًا فيتذكر لحظة معينة تُنير له ما كان مظلمًا) وتوماس إليوت : "العالم كومة من الأخيلة المكسورة" وكارل يونغ السويسري مع علم النفس التحليلي وسورين كيركجارد مع الوجودية المؤمنة والشك الديكارتي، أخذني إلى عالمه الفني مع نرسيس الذي رأى صورته في الماء ولوحة الجوكاندا الشهيرة والأيقونة الخالدة للرسام الإيطالي ساندرو بوتيتشيلي ولادة فينوس - صدفة البحر- والرسامة المكسيكية فريدا كاهلو المولعة برسم ذاتها وشطحت مع موسيقاه العذبة وشاعريته المرهفة الاحساس حين قال :"صوت قطرات المطر مثل ضربات البيانو غير المنتظمة" ! مما يدلّ على سعة اطّلاعه وثقافته وحلمه بأن يكون جزءًا من ذاك العالم الكبير ليعيش عيشة طبيعية كباقي البشر.
حياة بطله عبارة عن بؤس المخيم، ويافا هي الحنين، والحصرم موجود في جنة يافا المنشودة "ماذا تتصورون من امرأة عرفت الجنة تنزل إلى الجحيم من بيت ضخم على تلة يرتمي الشاطئ تحتها إلى خيمة في رمال غبراء، سقوط كبير"، ولهذا هو ضد المفاوضات لأن يافا ستضيع فيها (ص 150)، "وما ضايل من يافا إلا هالشارع في المخيم" ويافا ضاعت في أوسلو 1993 ، رغم بقائها حلمًا في ذاكرته بعد أن تناقلها من جيل إلى جيل ، عبر حكايا الكبار وقلادة الأحزان – قلادة الجدة- التي لبستها يوم خرجت من يافا (ص 143) وملعقة أمه ، هذه ليست ملعقة ، هذه ذاكرة (ص 1300) فلا يبقى له غير الهروب من المخيم ليحلّق بعيدًا لخلق مدينة جديدة – مدينته الحالمة.