نحو إستراتيجيات جديدة لمواجهة تحديات متكاثرة

طلال عوكل
حجم الخط

بعد كل الوقت الذي انقضى على حقيقة وجود الانقسام الخطير في الساحة الفلسطينية، وتضاؤل الآمال بإمكانية إنهائه واستعادة الوحدة، لم يعد ممكناً الحديث عن استراتيجية وطنية فلسطينية موحدة في مواجهة التحديات المتكاثرة التي تباعد إمكانية تحقيق أي من الاستراتيجيات المعتمدة من قبل طرفي المعادلة الفلسطينية. لا برنامج المقاومة الذي تلتزم به حماس وفصائل أخرى قادر على تحقيق الأهداف القريبة للشعب الفلسطيني المعروفة بالبرنامج الوطني، ولا برنامج البحث عن السلام من خلال المفاوضات أو غيرها قادر على أن يفعل ذلك. لو افترضنا أن الإدارة الأميركية الجديدة وتلك فرضية غير متوقعة، تبنت البرنامج والرؤية الفلسطينية للحل السياسي، فإنها في كل الأحوال لن تدخل في صدام مع إسرائيل التي تعمل على سياسات مختلفة. إذن من العبث انتظار الغيث من إدارة ليست في أحسن الأحوال أفضل من الإدارات التي سبقت، ما يجعل هوامش الحركة السياسية الفلسطينية محدودة، حتى لو أنها نجحت في الحصول على اعترافات عديد الدول بما في ذلك الأوروبية بالدولة الفلسطينية.
لا أحد في هذا العالم، مستعد لو توفرت لديه القدرة، لأن يفرض على إسرائيل دولة بمواصفات لا تقبل بها، أما دولة بمواصفات تقبل بها وتفرضها فهي مرفوضة من قبل الفلسطينيين. فهي حال توفرت قناعات لدى القيادات السياسية الفلسطينية بمثل هذه الاستنتاجاتـ فإننا في الأغلب نحتاج إلى استراتيجيات، قد تتقاطع عند العديد من الرؤى والمواقف، وتتناقض عند أخرى. ولكن لا مناص من مراجعة البرامج والرؤى القائمة، ولاعتماد استراتيجيات جديدة نظيفة من الشعارات، والدعوات، والمطالبات، استراتيجيات واقعية، معلنة، تأخذ في الاعتبار مجمل التحديات، والإمكانيات، وأولويات المواجهة. الواقعية السياسية لا تقول بالمراهنة على اعتدال واعد ومؤثر من الإدارة الأميركية، ولا تقول بترديد شعارات من نوع لا دولة في غزة ولا دولة بدون غزة، والواقعية السياسية لا تقول بإمكانية تحقيق الوحدة، ولا بترديد شعار أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب المركزية الأولى، خصوصاً في ظل الاضطراب المفتوح على الزمن الذي يضرب المنطقة بكليتها.
في الأفق تعمل السياسة الإسرائيلية على الدفع نحو فصل قطاع غزة وتحييده، والذهاب إلى حين نحو دولة بثلاثة أنظمة: نظام إسرائيل، ونظام المستوطنين ونظام فلسطيني على اقل من الحدّ الأدنى لحكم ذاتي. في زمن الاضطراب العربي والإقليمي، الذي تستفيد منه إسرائيل لا يفكر العقل الصهيوني التوسعي بما يعتبره تنازلاً عن القدس، وعن «يهودا والسامرة».
إسرائيل المرتاحة والقوية، تجد فرصتها الذهبية لأن تتوسع في المنطقة، توسعاً من خلال توسيع نفوذها، ودورها ومصالحها، ودورها العسكري والأمني، وليس بالضرورة من خلال احتلال اراض عربية جديدة. المعادلة التي تندفع نحوها الصراعات في المنطقة، وتتبناها إسرائيل، والولايات المتحدة، وعدد من الدول العربية، تذهب في اتجاه مواجهة الخطر الإيراني، الذي يقف على رأس أولويات هذه الأطراف. ويبدو أن الاقتراب أكثر فأكثر من معالجة أمر الدولة الإسلامية في العراق، وبدء العملية السياسية في سورية، يدفع باتجاه الاقتراب أكثر فأكثر من تأجيج المواجهة مع إيران وامتداداتها. من الطبيعي والحالة هذه أن تزداد مخاوف السعودية، وبعض دول الخليج، من أن ذلك سيؤدي إلى اقتراب الخطر أكثر فأكثر على بلدانها، ما سيفرض عليها البحث عن تحالفات ليس من بينها روسيا والصين لأسباب تاريخية وعقائدية، لإبعاد، أو تقليل حجم المخاطر التي تواجهها. في الساحة ثمة العديد من القوى الفاعلة والمرشحة لأن تشكل سنداً لدول الخليج، فعدا إسرائيل وفي ظهرها الولايات المتحدة، ثمة مصر وتركيا. وبتقدير إمكانيات الأطراف المرشحة، فإن إسرائيل المدعومة أميركياً تقدم نفسها على أنها القادرة على الإنقاذ، ودرء مخاطر التوسع والقوة الإيرانية المتنامية.
حتى الآن لا ترتقي علاقات دول الخليج مع مصر وتركيا إلى الحد الذي يرفع مستوى فعالية العلاقة إلى مستوى التحالف المصيري، وهو أمر ربما يعكس قدراً من الإرادوية المقصودة، التي تبحث عن مبررات لتصعيد مستوى التعاون بين بعض دول الخليج وإسرائيل. لا داعي لتقديم المؤشرات على مثل هذه الرغبة، التي تجاوزت حدود التفكير إلى العمل، ولا داعي، أيضاً، للاتكاء على تصريحات عديد المسؤولين الإسرائيليين بهذا الصدد. كان آخر ما جاء من هذه التصريحات ما ورد على لسان وزير الدفاع  الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، الذي قال: «إن الوقت قد حان لتعزيز التعاون مع دول الخليج»، بعد أن اعتمدت إسرائيل في وقت سابق سياسة دعم والمشاركة في حلف سني لمواجهة الخطر الإيراني. إذن هناك خوف حقيقي لدى القيادات الفلسطينية، أو ان الوقائع تفترض، وجود تخوف حقيقي من أن تبادر العديد من الدول العربية لإقامة علاقات تعاون وربما تحالف مع إسرائيل حتى لو لم يتخذ مثل هذا التعاون طابع الاعتراف الرسمي، وتبادل فتح السفارات، والسفراء. والسؤال: هل يمكن للسياسة الفلسطينية على اختلاف استراتيجياتها وبرامجها أن تفعل شيئاً لمنع أو لإبطاء هذه العملية، أم أن المجاملة والمراعاة ستكون عنوان التعامل مع هذه الوقائع؟ عملياً فإن إسرائيل تكون قد فرضت بالوقائع الملموسة فهمها لمبادرة السلام العربية، هذا الفهم الذي يقوم على قلب المبادرة بحيث تبدأ من الياء، أي الاعتراف المتبادل بينها وبين العرب، ولكن من دون أن تترجم بقية استحقاقات المبادرة، التي تتضمن دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، وعاصمتها القدس. لا أدعو إلى استراتيجيات تعلن الحرب على العالم أو على الدول العربية المعنية، ولكن ثمة ما يتطلب تصليب عوامل الصمود الفلسطيني على الأرض كأولوية، وتنشيط حركة المقاومة الشعبية السلمية، تحضيراً لخوض معركة البقاء على الأرض، في ظل التحديات الجديدة التي تفرضها إسرائيل على الأراضي الفلسطينية كلها. نائب رئيس حركة فتح محمود العالول قال كلاماً مهماً ومسؤولاً في وصف الواقع، وبأن ثمة هوّة بين الحركة والجماهير الفلسطينية. هذه الهوّة، أو الفجوة موجودة بين كل الفصائل والجماهير، فهل تبادر حركة الرصاصة الأولى، لأن تتجاوز الأسباب التي أدت إلى مثل هذه الفجوة، أم ان السياسة ستظل قائمة على الفوقية والبيروقراطية التي لا تؤمن بالجماهير إلاّ لفظياً.