اسمها غدير. هي فتاة من القدس، عملت معي أيام كنا، صديقي نظير مجلي وأنا، نصدر نشرة «الكشاف» اليومية، متضمنة مقدمة تشرح الوضع السياسي في إسرائيل، وترجمات لأهم الأخبار ومقالات الرأي في جميع الصحف الإسرائيلية الصادرة باللغات العبرية والانجليزية والروسية والعربية، بما في ذلك صحف الأحزاب الدينية الإسرائيلية.
طلبت مني، عبر وسائل الاتصال الاكترونية، قبل نحو شهرين، أن اتابع صفحة «فيسبوك» أنشأتها وتديرها. استجبت لطلبها، رغم أنني مُقِلٌّ في الاستجابة لطلبات من هذا القبيل. من باب الفضول، الذي يلازمني، تابعت بكثير من الملل أحيانا، وباهتمام بالغ في أحيان أخرى، ما تنشره في تلك الصفحة «الفيسبوكية».
أول ما دفعني إلى الاهتمام بمحتويات هذه الصفحة، هو اقتباس نشرته فيها، تحت عنوان «أقصر خطبة جمعة في التاريخ»، وهي للشيخ السوداني، عبد الباقي المكاشفي، حيث خطب قائلاً: «لقمة في بطن جائع، خير من بناء ألف جامع». وأقم الصلاة.
أذهلني وأعجبني الاختصار حد الاختزال: بتسع كلمات فقط، قال الخطيب كلمات تختصر تسع مئة خطبة، من أمثال تلك الخطب المكررة. ترك الشيخ السوداني مستمعيه للتفكُّر بما قال، وأقام الصلاة فورا، حافظا للناس/المصلين وقتهم، ليقضوه مع عائلاتهم وأحبابهم، ولينقلوا لهم ما قاله هذا الخطيب المبدع والرائع.
دفعني الإعجاب في اختيار غدير إلى متابعة ما تقتبسه. ولم يخب ظني، وسعدت بقراءة بعض ما تلا ذلك. تقول كلمات أحد اقتباساتها: «أنْ تشرب فنجان قهوة مع صديقك «اليهودي»، وتذهبان معاً لزيارة جاركم «المُلحد»، وتلقيان السلام على بائع دكان «بوذي». أنْ ترى «مسيحياً» يمازح «مسلماً» في فناء كنيسته، و»شيعياً» يصلح مئذنة لجامع «سني»… فهل يا ترى سيغضب الله لو فعلنا هذا؟».
كان محتوى ما تلا ذلك أبلغ وأكثر دفعاً لي للتفكّر، وأشبه ما يكون بدرس سياسي اجتماعي، كثيرون منا بحاجة ماسة لتعلّمه واستيعابه، وتَمثُّل حكمته في تصرفاهم وأحاديثهم العابرة، مع أسرهم وأصدقائهم ومعارفهم.
عنوان ذلك الاقتباس في الصفحة: «كيف تم قتل ألف جندي أمريكي في كوريا، دون إطلاق رصاصة واحدة؟».
يقول الاقتباس: «بعد انتهاء الحرب الكورية، (في مطلع خمسينيات القرن الماضي)، قام الجنرال وليام ماير، المحلل النفسي في الجيش الأمريكي، بدراسة واحدة من أعقد قضايا تاريخ الحروب في العالم. فقد تم أسر وسجن حوالي ألف جندي أمريكي في تلك الحرب، وتم وضعهم داخل مخيم تتوفر فيه كل مزايا السجون، من حيث المواصفات الدولية.
هذا السجن لم يكن محصورا بسور عال كبقية السجون، بل وكان يمكن للسجناء محاولة الهرب منه إلى حد ما، وكان الأكل والشرب والخدمات متوفرة بكثرة، وبدون تعذيب جسدي. ولكن التقارير كانت تشير إلى أن عدد الوفيات في هذا السجن أكثر من غيره من السجون.
هذه الوفيات لم تكن نتيجة محاولات فرار، بل ناتجة عن موت طبيعي! الكثير منهم كانوا ينامون ليلا، ويطلع الصباح وقد توفوا. وقد استطاع الجنرال ماير أن يحصل على بعض المعلومات والاستنتاجات من خلال هذه الدراسة:
1ـ كانت الرسائل والأخبار السيئة فقط هي التي يتم إيصالها إلى مسامع السجناء أما الأخبار الجيدة فقد كان يتم إخفاؤها عنهم.
2ـ كانوا يأمرون السجناء أن يحكوا على الملأ إحدى ذكرياتهم السيئة حول خيانتهم أو خذلانهم لأحد أصدقائهم أو معارفهم.
3ـ كل من يتجسس على زملائه في السجن يعطى مكافأة، كسيجارة مثلا.
لقد كشفت تحقيقات الجنرال ماير أن هذه التقنيات الثلاثة كانت السبب في تحطم نفسيات هؤلاء الجنود/الأسرى إلى حد الوفاة:
1ـ الأخبار المنتقاة (السيئة فقط)، كانوا يفقدون بسببها الأمل في النجاة.
2ـ حكايتهم لذكرياتهم كالخيانة أو التقصير أما الملأ والعموم، ذهبت باحترامهم لأنفسهم واحترام من حولهم لهم.
3ـ تجسسهم على زملائهم قضى على عزة النفس لديهم، ورأوا أنفسهم بأنهم حقراء وعملاء.
كانت هذه العوامل الثلاثة كفيلة بالقضاء على الرغبة في الحياة، ووصول الإنسان إلى حالة الموت الصامت»….
بعد تدقيق أجريته من خلال مصادر اخرى، تبين لي أن نسبة الوفيات بين الأسرى في ذلك المعسكر/السجن، في كوريا الشمالية، بلغت 38٪.
نصل من بعد هذا «الدرس» إلى التدقيق في حياتنا، كفلسطينيين، في الضفة الغربية، (والقدس العربية جزء منها)، وفي قطاع غزة، وفي مناطق الـ 48، وفي دول اللجوء والشتات. هذه كلها سجون كبيرة، بجدران وأسيجة. نحصي عددها فنجد أن فلسطينيي مناطق الـ48 يخضعون لأربعة أسيجة أساسية:
ـ سياج إسرائيل الرسمية، والتي ترى الأغلبية فيها أنهم «طابور خامس».
ـ سياج رفض دمجهم في المجتمع الإسرائيلي اليهودي، ووسمهم بـ«الرافضين»، وتحميلهم تكاليف «الرفض»، في حين أن الحقيقة أنهم «مرفوضون»، ولهم الحق في التعويض عن رفض إسرائيل لهم.
ـ سياج الفقر و«التفقير» الإسرائيلي، إضافة إلى العوامل الذاتية من تخلف وتقاليد بالية.
ـ سياج اعتبار إسرائيل لهم بأنهم عرب، واعتبار العرب لهم بأنهم إسرائيليون.
هذه الأسيجة الأربعة، لها مثائل عند كل بقية التجمعات الفلسطينية في أرض الوطن وفي دول وقارات اللجوء والشتات.
قدرة الفلسطينيين على مواجهة وتحدي هذه الأسيجة، وفضح الحقيقة حول ما فيها من ظلم وغبن وكذب وافتراء، محدودة، ولكنها موجودة وقائمة وقابلة للتطوير، وهي، في أسوأ الحالات، غير معدومة تماما.
لكن ما هو أخطر من هذه الأسيجة العنصرية، وما يترتب عليها من نتائج سلبية وتشوهات، موحدة ومفترقة، «بالجملة وبالمفرق»، هو دفع أبناء شعبنا الفلسطيني إلى الكآبة والإحباط، وصولا إلى اليأس.
المحور الرئيسي للسياسة الإسرائيلية، الإعلامية على الأقل، هو العمل على تيئيس الفلسطينيين، ويستعينون، إضافة إلى جهودهم الخاصة، بعملاء لهم بين صفوف الفلسطينيين، وبضعيفي الإيمان بشعبهم الفلسطيني، وقدرته الأكيدة على متابعة نضاله، وابتكار الأساليب النضالية الكفيلة بتأمين وتحقيق أهدافه الوطنية المشروعة.
كيف يمكن لك أن تطلب إلى فلسطيني أن يقاتل وأن يقاوم وأن يرفض الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي، وأنت تقول له:
ـ أبو مازن: «حالة ميؤوسة».
ـ الدحلان: مشبوه ومنحرف.
ـ الجبهة الشعبية متخلفة: ومتخصصة بالمزاودة.
ـ الجبهة الديموقراطية: «جبهة تنظير»، تخدع الجماهير البسيطة، بلغة عربية «فصيحة».
ـ حماس: ليست فلسطينية.
ـ المستقلون: مرتزقة، ينعمون بعيش رغيد، من أموال الدول المانحة، تحت غش وغطاء «منظمات غير حكومية».
ـ الأسعار: حدث ولا حرج.
ـ العرب: باعوا فلسطين.
قد يكون بعض ما ورد أعلاه صحيحا، وقد يكون غير صحيح. لكن: ما هي المصلحة الوطنية في قصر كل حديث عام، في أي مكان عام، وفي داخل غرف بيت العائلة، على هذا الكلام السلبي؟
قتل الأمل في التحرر والاستقلال يقود بشكل مباشر وفوري إلى القعود والركون والاستسلام. يمنع المناضل من مواصلة نضاله، ويحول بين الشباب الواعد الصاعد، جيل المستقبل، والتفكير والانضمام إلى صفوف وتجمعات المناضلين الوطنيين. ليس مناضلا وطنيا صادقا من لا ينتقد بالفم الملآن، كل تقصير، أو إدارة ركيكة، أو تصرف، أو قرار خاطئ، يتحمل أبو مازن، (مثلا)، مسؤوليته، بفعل موقعه، (أو قل مواقعه)، وعلى كل صعيد: تنظيميا ووطنيا وقوميا ودوليا، وفي المجالات كافة: سياسيا وإداريا وماليا واجتماعيا. لكن بين النقد والانتقاد، وبين الهدم وتيئيس شعبنا من إمكانية العمل والنضال والتقدم بخطى ثابتة راسخة، لتحقيق أهدافه الوطنية المشروعة، فرق شاسع. النقد، والانتقاد العلني، لكل خطوة خاطئة، واجب وطني. أما التيئيس فهو ما تهدف وتعمل وتسعى إسرائيل إلى نشره. وليس من الحكمة أن نكون منفذين، حتى ولو بدون وعي، لأهداف إسرائيل.
على الجانب الآخر: يجدر بكل من يتولى مسؤولية في العمل العام، أن يعرف ويستوعب ويهضم ويقبل، حتى قبل تسلمه لموقعه القيادي، حكمة ابن الوردي، في لاميّته الخالدة، التي تقول: «إن نصفَ الناسِ أعداءٌ لِمَن… وُلِّيَ الأحكامَ، هذا أن عَدَل». فكيف وحكّامنا غير عادلين، ويعرفون أنهم غير عادلين؟.
الوضع صعب وسيء، ولكن التغيير والتقدم مطلوب وواجب وممكن. والدنيا بخير، رغم كل المنغصات.
عن القدس العربي