المتوكل طه " مملكة الوسواس "

المتوكل طه " مملكة الوسواس "
حجم الخط

أكتبُ لأمَزَّقَ ! مثل الخالقِ أُحيي وأُمِيت.
قد يحملُ أحدٌ أوراقي للنارِ ، تماماً ، مثل نهايةِ كلِّ روائيٍ ،
مَثّالٍ ،
رسّامٍ ،
زِريابٍ ، 
قَصّاصٍ ،
ساحِرْ ..
وحتى لو ظلَّ قليلٌ من مِزَقِ الصفحاتِ، سيلقيها العاملُ في جوفِ الحاويةِ، كما نحنُ الآن بقلبِ الأوساخِ ..
فأين الجَنّةُ كي أودِعَها حَرفِي المذبوحَ ، وأين الفردوسُ الأعلى .. لأُصَعِّدَ فيه كتابي الخاسر ؟
حَرْفي سِكّيرٌ ملعونٌ .. وقبيحٌ فاجِرْ .
وسُطوري سوداءُ .. كحظّي المَمْسوسِ العاثِرْ .
ومِدادي مِن دمعِ الصَّنَمِ الوثنيِّ ، أُغمِّسُ قلمي السيّالَ به ، وأروحُ أَخُطُّ ، فيظهرُ من بين خطوطِ الحِبْر .. الشيطانُ !
فأسأل : أنتَ الكامنُ خلفَ الوحيّ؟
فقال : أنا الضَحّاكُ الساخِرُ والنّاهي الآمِرُ ،
أو ما شئتُ أكونُ ، أَخِرُّ بشريانِ البهجةِ فَأُعَكّرُهُ بالملحِ، وأُعطي أولادي الأوهامَ الصُّلبةَ ، وأُراقِصُ أضواءَ الصوفيِّ ، وأعرفُ خاصرةَ الطينِ، فهل تعرفني الآن ؟ أنا الشغفُ الماكِرُ والماضي الحاضر ..
ومضى !
***
حاولتُ لأنْ أتركَهُ ، وأكونُ أنا الوحيُ لنفسي ! 
فجمعتُ خيولي ، وشققتُ بها صدري ، وعبرتُ إلى عتماتِ الرّوحِ ، وغاباتِ العقلِ وبركانِ القلبِ ، وقلتُ ؛سأبحثُ عن نبعٍ بشريٍ لِدَواتي ، 
وسأنزعُ ريشةَ عَظْمٍ أجعلها قلمي ..
ورجَعتُ إلى الأوراقِ ، ورحتُ أُدَبِّجُ ما يَرِدُ من الإلهام أو السّحرِ،
لأبدوَ مثلَ الحَبَّارِ الماهرْ ..
فكتبتُ ، ورحُتُ ، وعُدْتُ ، ومزّقتُ ، وأصلحتُ ، وشطَّبتُ ، وأبقيتُ ..
وأعَدْتُ قراءةَ ما انداحَ على الصفحاتِ ، فأيقنتُ بأنَّ فؤادي مملكةُ الوسواسِ ، وبأنّي الشيطانُ الكافِرْ .
***
خفتُ! فيومُ الْحَشْرِ حسابٌ لا يرحمُ ؛ وديانٌ للنّارِ ، وحيّاتٌ تعقصُ ، ولظىً يشوي الأبدانَ ، وماءُ اليحْمومِ ، وكُلّابٌ حامٍ ، وبقاءٌ بسَعيرٍ سافِرْ !!
قلتُ : فماذا أفعلُ ؟ أُلقي القلمَ بعيداً عنّي؟
لا ، بل أكتبُ ما يرضي اللهَ تعالى ؛ مَنْ أعطاني أغنيةَ الليلِ ، ولحنَ الجُرحِ ، وفوضى الأزهارِ ، وأمزجةَ الأنهارِ ، وجرأةَ أوتارِ العُودِ، وتيهَ النجماتِ ، ولَمَّةَ أغرابٍ كانوا أصحاباً ، قبلَ عثورِ السّرجِ على الحافِرْ .
مَنْ ساقَ إليّ العِطْرَ ، وأعطاني النسغَ المُعْجزَ ،وأسال الشمسَ على أعرافِ الطفلِ ، وفَتَّحَ أبوابَ القلعةِ قبلَ رياحِ الجِسرِ ، وأرجعني للمهدِ ، وأنْعَمَ بالغَبشِ الذهبيِّ على النايِ ، وبالجَمْرِ الفيّاضِ على التفّاحِ، وبالخمرِ السُلطانِ على النُسّاكِ، وبالنارنْجِ المصهورِ على التَّلّينِ ، ونهرٌ بينهما يتلعثم بالماء .. وقال ؛ اخرُجْ للأرضِ ؛ ستلهثُ فيها مثل الذئبِ ، وتكسرُ فانوسَ العميانِ ، وتشربُ أوراقَ الليمونِ ، وتبكي دهراً حين ترى الغزلانَ تُشاكسُ أشواقَ البستانِ وتمضي للظلِّ الغامِرْ . 
ولمَنْ صَبَّ حليبَ التّمْرِ على الفخذينِ ، وأنْبَتَ مِسْكَ الزَّغَبِ على كهفِ النعناعِ الفائرْ .
ولمَنْ أعطى الثوبَ المبلولَ القُدرةَ لملامسةِ النَّهدِ، ولم يحرقْهُ الضوءُ الباهرْ .
ولَمنْ مَكّنَ هذي الفَرَسَ من العشقِ، وظلّ حصانُ الأسطورةِ يركضُ ، دون وَجِيبٍ ، والعسلُ يُرنِّقُ غيمَ الأشجارِ الماطِرْ.
وفردتُ الأوراقَ ، صَفَنْتُ ، تأمّلتُ.. 
وهَمَمْتُ لأكتبَ ، ثانيةً ، فتمثّل فوقَ الأوراقِ .. وقالَ الشيطانُ :
أنا الشاعرُ يا شاعرْ !
فَصِحتُ : وأين الجَنّةُ .. كي أُودِعَها حَرفِي المذبوحَ ،
وأين الفردوسُ الأعلى ..
لأُصَعِّدَ فيه كتابي الخاسر ؟