اليمن مقابل سورية: الكوني يحتوي الإقليمي!

رجب أبو سرية
حجم الخط

بتصاعد وتيرة «التفاهم» بين واشنطن وموسكو، يمكن القول، إن العالم يعيد ثنائية كانت في وقت مضى بين الدولتين، ولكن هذه المرة، لا يبدو أن أفق التوتر أو ما كان يسمى بالحرب الباردة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت بتغيير «ثنائية» قيادة العالم، التي كانت طوال قرون طويلة بين بريطانيا العظمى وفرنسا، إلى أن ظهرت ألمانيا، محاولة أن تقود العالم وحدها، سيعود. ومعروف أن الحرب العالمية الثانية بدأتها بريطانيا والتي قادت الحلفاء في حربها ضد المحور، إلا أن الحرب انتهت بالولايات المتحدة التي دخلت الحرب متأخرة، وقادت العالم الغربي، في حين ظهر الاتحاد السوفياتي _ سلف روسيا، كنِدٍّ أو كطرف يقود نصف العالم مقابل قيادة أميركا لنصفه الآخر.
بعد الحرب الباردة أزيلت الحدود بين العوالم المختلفة، خاصة العالمين: الشرقي والغربي اللذين كانا متحاربين أو متصارعين أو متضادين، ورغم أن العقود الثلاثة الأولى شهدت «تفردا» قيادياً من قبل الولايات المتحدة للعالم، إلا أن العالم كان يبدو غير سعيد بهذا التفرد، لذا حاولت أكثر من جهة أن تظهر كطرف يحقق الثنائية القيادية، لعل أهم تلك الجهات كان الاتحاد الأوروبي، الذي بدا كمستحق شرعي وطبيعي لهذا الأمر، فيما ظهرت الصين، ومن بعيد كانت تظهر اليابان، كقوى اقتصادية ذات وزن عالمي في المجال الاقتصادي، إلا أن روسيا سارعت من وتيرة سعيها للعودة إلى ما كان عليه الاتحاد السوفياتي من مكانة عالمية قبل وقت قريب جداً.
عودة الثنائية الكونية إلى الظهور مجدداً، خاصة في ملفات الشرق الأوسط، أظهرت أيضاً، إلى حد ما تبادلاً في المواقف بين كل من الولايات المتحدة وروسيا، فروسيا / الاتحاد السوفياتي كانت تتحكم في سياستها الخارجية العقائدية، فيما كانت تتحكم في السياسة الأميركية المصالح _ الاقتصادية خاصة، الآن يبدو أن البلدين تبادلا البواعث بينهما، ففي الملف السوري والعراقي، يبدو أن الأمر اختلف قليلاً، فروسيا تدخلت بالقوة العسكرية في سورية للحفاظ أو حتى للبحث عن مصالحها بوضع موطئ قدم على الساحل الشرقي للبحر المتوسط (قاعدة حميميم)، فيما الولايات المتحدة، سعت من وراء إسقاط نظام صدام حسين إلى خلق كيانات وولاءات سياسية لها، في بلد طالما ناصبها نظامه السابق العداء، لذا حرصت على دعم كيانية الأكراد في شمال غربي العراق، كذلك بتمكين الشيعة من الحكم في بغداد. وفي سورية كشفت الأسابيع الأخيرة عن أن واشنطن ليست معنية تماماً بإسقاط نظام الأسد لصالح نظام حكم سني، أي عكس ما فعلته في العراق، بل من خلال دعمها لقوات سورية الديمقراطية (الكردية) تسعى إلى رعاية النظام الكردي في شمال سورية أيضاً.
لعل معركة ريف دمشق قبل أسابيع، حيث قاتلت قوات سورية الديمقراطية إلى جانب قوات نظام الأسد، ثم إن معركة منبج، كشفت بوضوح عن أن الكرد في سورية يبحثون عن «أنفسهم» لذا توافقوا مع الروس والنظام ضد تركيا والجيش الحر، فيما كانت القوات الأميركية المحيطة بمنبج، تقبض على حسم الموقف، لكن جل ما فعلته هو أنها مارست دور قوات الفصل بين المتحاربين.
أي أن واشنطن ما زالت تسعى إلى إقامة «كيانات» بديلة عن الدول في المنطقة، فيما روسيا تبحث عن تعزيز مصالحها الخاصة بشق أنابيب النفط والغاز إلى المستهلك الأوروبي.
أما الدول المركزية في المنطقة، خاصة مثلث إيران / تركيا / إسرائيل، وفي ظل غياب الدول العربية المركزية، العاجزة عن خلق محور عربي يحافظ على مصالحه، فكل منها تسعى إلى التمدد على حساب الجسد العربي المنهك والضعيف، كل من زاويته، وقد وقعت كل من إيران وتركيا في الفخ الإسرائيلي حين وجدتا في الملف الطائفي، أو في تحويل الصراع في المنطقة على أساس طائفي، بوابة تحقيق طموحاتهما الإمبراطورية القديمة، فغاصت كلاهما في الصراع السني / الشيعي بوضوح ودون لبس!
ولعل في معركة الموصل التي وصلت إلى فصلها الأخير ما يكشف إلى مدى عن الانحدار وصل إليه المتحاربون على الأساس الطائفي، حيث إن أسوأ ما في تلك الحرب الكاذبة، أنها  كانت فصلاً قبيحاً من فصول التطهير العرقي الجاري في العراق وسورية ضد السنة بالتحديد، وذلك من خلال هجرة نحو 300 ألف عربي / سني من الموصل، وتحويلها بفضل جرائم الحشد الشعبي وجيش حكومة بغداد الشيعية إلى مدينة أشباح، أين منها مجزرة حلبجة؟!
التوافق بين روسيا وأميركا، انعكس على ملف الصراع المحتدم والذي لبس لبوس الصراع الطائفي السني / الشيعي، ونقصد بهما ملفي سورية واليمن، حيث سمحت هذه الثنائية بأن يتقدم التحالف الشيعي في سورية مقابل تقدم التحالف السني في اليمن، وذلك لأنه غير مسموح لهذا الصراع أن يضع أوزاره، خاصة بشكل سريع، بانتصار طرف على طرف، لأن الهدف هو أن يبقى هذا الصراع محتدماً، من أجل إنهاكهما معاً، واستمرار حرب تضع جدرانا من الكراهية والحقد بينهما، يصبح من الصعب لاحقاً إزالتها، ولو بعد سنين طويلة.
إسرائيل وحدها، خارج هذا الإطار، أما روسيا وأميركا فإن حالة التوازن التي تحرصان عليها بينهما، تحفظ قواتهما من وقوع أي خسائر (لم يسمع أحد عن سقوط جندي روسي واحد في سورية، ولا عن استهداف طائرة أو جندي أميركي لا في الموصل ولا في أي مكان آخر)، أما إيران ومعها حزب الله فقد خسرا كل ما كانا يتمتعان به من شعبية في الوسط الشعبي العربي جراء انخراطهما في الحرب بسورية والعراق، وتركيا كذلك خسرت الكثير من القبول الذي تمتعت به، بعد تحالفها مع الإخوان فقط في المنطقة العربية، وفقط إسرائيل تتمتع الآن بمكانة من يطلب الجميع ودها، ومن باتت خارج دوائر الصراع، لدرجة أنها باتت في غنى عن «مفاوضات» مع الجانب الفلسطيني، طالما كانت تبث الوهم بأن هناك عملية للتوصل إلى حل سياسي لأهم ملفات الشرق الأوسط.