إستراتيجية "المقايضات" الإسرائيلية

thumbgen (36)
حجم الخط
 

وسط حالة الارتباك العربية فى إدارة الأزمات والعلاقات مع الأطراف المتورطة أو على الأقل ذات العلاقة بهذه الأزمات، وفى ظل حالة التداعى غير المسبوقة للنظام العربى أمام تغول النظام الإقليمى فى عمق المجالات الحيوية للنظام العربى واستئثار القوى الإقليمية الشرق أوسطية الكبرى الثلاث: إيران وتركيا وإسرائيل بالنصيب الأكبر فى إدارة هذه الأزمات تحاول إسرائيل إعادة هندسة النظام الإقليمى الشرق أوسطى وفق أسس وقواعد جديدة تحقق لها أعلى قدر من المكاسب، أولها هى تذويب النظام العربى فى النظام الإقليمي، بحيث يختفى النظام العربى كلية من الوجود ويتحول إلى جزء من عالم إقليمى أوسع هو الشرق الأوسط، من خلال جهود هائلة لطمس الهوية القومية للنظام العربى ومن خلال مخطط إعادة تقسيم الدول العربية على أسس عرقية وطائفية تنهى أى صلة بالعروبة كهوية، وثانياً فرض استقطاب جديد فى إدارة النظام الشرق أوسطى ينهى نظام التعددية القطبية الذى كان سائداً لسنوات طويلة مضت، على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويفرض إسرائيل قوة قائدة لهذا النظام الآن من خلال فرض نظام إقليمى ثنائى القطبية، يؤدى إلى اختفاء قضايا محورية وصعود قضايا أخرى بديلة تبرز تمايز هذا الاستقطاب الثنائي.
الاستقطاب الجديد الذى تريد إسرائيل أن تفرضه مستغلة حالة الارتباك العربية هو تأسيس ما يسمونه «تحالف الاعتدال» الذى يضم دولاً عربية لم تعد طرفاً فى صراع مع إسرائيل يفضلون تسميتها «الدول السُنية» إضافة إلى تركيا وإسرائيل بمشاركة أمريكية، وهو التحالف الذى أعطوه اسم «حلف ناتو إقليمي» أى حلف إقليمى على غرار حلف شمال الأطلسى (الناتو) يؤسس على قاعدة تعاون دفاعى وأمنى واستخباراتى ضد تحالف آخر، أحياناً كان يأخذ مسمى «الهلال الشيعي» تقوده إيران ويضم الدول القريبة من طهران خاصة العراق وسوريا ولبنان (باعتبار أن حزب الله حليف إيران أضحى صاحب الكلمة الأولى فى لبنان) وأحياناً أخرى يحمل اسم «محور الشر»، أى نفس المسمى الذى ابتدعه الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش (الابن) عندما قرر أن يخوض حرباً واسعة ضد ما سماه«الإرهاب»، وكان العراق ومن قبله أفغانستان أول من دفع أثمان هذه الحرب. هذا الاستقطاب الثنائى تسعى إسرائيل إلى تحويله من مجرد افتراض نظرى إلى واقع عبر مجموعة من السياسات والإستراتيجيات التى تحاول إسرائيل الترويج لها لتيسير هذا الاستقطاب الإقليمى الثنائى بين قطب محور الاعتدال أو «حلف الناتو الشرق أوسطي» تقوده إسرائيل، ومحور الشر تقوده إيران.
من بين أبرز وأهم هذه السياسات والإستراتيجيات الإسرائيلية التى تراها إسرائيل ضرورية للنجاح فى تأسيس «الناتو الإقليمي» وتقليص وزن التحالف المعادى الذى تقوده إيران ما يمكن تسميته «إستراتيجية المقايضات»، وهى مجموعة من «المقايضات» تسعى إسرائيل إلى الخوص فيها لتجاوز العقبات والقيود التى قد تعرقل مسعاها لتزعم هذا التحالف مع من تسميهم «الدول السُنية» وتركيا، وتفرضها قوة قائدة لهذا التحالف الجديد من ناحية، ثم تقليص قوة التحالف المعادى الذى تقوده إيران من ناحية أخرى.
أولى هذه المقايضات تخص إعادة هندسة الأوضاع فى سوريا تستهدف إنهاء الأزمة السورية بشكل يؤمِّن المصالح الإسرائيلية كاملة ويحول دون تحويل سوريا إلى قوة مناوئة أو معادية أو طرف فى التحالف الآخر المعادى من خلال خطة صاغها وزير البناء والإسكان الإسرائيلى يؤاف جالنت حملت اسم «خطة سياسية إستراتيجية» لتحقيق المصالح الإسرائيلية فى سوريا، عرضها على «المجلس الوزارى المصغر» برئاسة بنيامين نيتانياهو قبيل سفره إلى واشنطن للقاء الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وهو اللقاء الذى تم يوم 15 فبراير الماضي، ونشرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أهم معالمها.
تهدف هذه الخطة إلى «صد التهديد الإيرانى الذى ينشأ على الحدود الشمالية لإسرائيل» من خلال «فرض مصاعب أمام احتمال نجاح إيران فى إقامة ممر برى يربط بينها وبين حزب الله فى لبنان عبر الأراضى العراقية والسورية، على أن يشمل الحل السياسى المستقبلى للأزمة السورية، وكجزء منه، اعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية».
وبحسب هذه الخطة، ينبغى أن تقوم الولايات المتحدة بقيادة ائتلاف دولى لإعادة إعمار سوريا، أى مقايضة إعمار سوريا، التى لن تدفع فيها إسرائيل دولاراً واحداً مقابل فرض السيادة الإسرائيلية كاملة على هضبة الجولان، أى الإعمار مقابل الجولان. المقايضة الثانية تخص روسيا، وسبق أن ألمحت إليها صحيفة وول سترتيت جورنال الأمريكية، عبر خطة تهدف إلى تفكيك العلاقة بين روسيا وإيران على أن يتم مقايضة السماح لروسيا بأن تكون القوة المسيطرة على سوريا فى المستقبل نظير تفكيك روسيا لتحالفها مع إيران، شرط موافقة روسيا على منع أى نفوذ أو وجود سياسى أو عسكرى لإيران وحزب الله فى سوريا قد يسمح بإقامة جبهة عسكرية ضد إسرائيل فى الجولان على غرار الجنوب اللبناني.
المقايضة الثالثة تخص قطاع غزة وتتضمن، وفق خطة أعدها وزير الأمن الإسرائيلى أفيجدور ليبرمان، وعوداً بإعادة إعمار قطاع غزة وتحويله إلى «سنغافورة شرق أوسطية» مقابل تخلى حركة «حماس» نهائياً عن خيار المقاومة، وتتضمن خطة ليبرمان دعوة صريحة إلى انفصال سكان غزة عن سائر الشعب الفلسطينى فى الضفة والداخل والشتات، وبعبارة أكثر مباشرة، دعوة فصائل المقاومة إلى إلقاء السلاح، وهى تعنى أيضاً التخلى عن مقاومة الاحتلال فى الضفة، وقبول الاستيطان، واحتلال القدس وكل فلسطين.
المقايضة الرابعة والأهم: هى مقايضة فلسطين بـ «التحالف الإقليمي»، أى أن تتخلى الدول العربية عن القضية الفلسطينية وخيار حل الدولتين والقبول بإسرائيل دولة يهودية مقابل التحالف الإسرائيلى مع الدول العربية «السنية» ضد الخطر الإيرانى الذى تعمل إسرائيل بدأب على تحويله كمصدر أساسى للتهديد بالنسبة لمن تسميهم بـ «الدول السُنية المعتدلة» والمقايضة هنا تعنى الدعم الإسرائيلى ضد إيران مقابل التخلى العربى عن فلسطين. لقاء نتنياهو مع ترامب حمل مؤشرات شديدة الخطورة بهذا الخصوص، والسؤال المهم الآن هو أين أجندة القمة العربية المقبلة فى. الأردن من هذه المقايضات؟
عن الاهرام