تعبيد الشارع قبل بناء الدولة

عبد الغني سلامة
حجم الخط

تعبيد الشوارع ليس أمرا هامشيا في حياة أي مجتمع.. الشارع هو المرآة التي تعكس حقيقة ومستوى المجتمع.. الشارع شيء حيوي وأساسي في حياة الناس، وهو أول وأهم شرط لبناء المدن وتخطيطها.. المدن العشوائية تعني عشوائية وبدائية سكانها، وتخلفهم.
ثمة مستلزمات أساسية لتعبيد أي شارع، تبدأ بتخطيط البلدية، وإدراكها لأهمية شق شارع في منطقة ما، ونظرتها بعيدة المدى لمستقبل الشارع والمنطقة (تخطيط إستراتيجي)، والبلديات التي لا يوجد فيها تخطيط إستراتيجي بلديات فاشلة.. والمجتمع الذي يقبل بوجود مثل هذه البلديات وينتخبها، أو يصمت على أدائها مجتمع متخلف، لا يعرف حقوقه ولا واجباته.
بعد تخطيط الشارع، تبدأ عمليات التنفيذ (الشق، التمهيد، البسكورس، صب «الزفتة»، تخطيط جانبي الطريق ووسطه بالخطوط المتصلة والمتقطعة، عواكس الفسفور، الحمايات الجانبية، وضع الإشارات التحذيرية والإرشادية، تبليط الأرصفة، الإنارة..).. وهذه الخطوات يجب بالضرورة أن تتطابق مع المواصفات القياسية.. ويجب أن تترافق مع كل خطوة عمليات إشراف ورقابة من قبل مهندسي البلدية، ويجب أن يكون التنفيذ في الموعد المحدد، حتى نحصل على شارع لائق ومحترم.
هذا الأمر تقريبا لم يحصل ولا مرة واحدة في بلادنا!! بينما هو من أبسط البديهيات في الدول المتقدمة.
ماذا يحصل عندنا على أرض الواقع؟ شوارع ضيقة يتبين بعد فترة أنها تتسبب بالاختناقات المرورية، شوارع دون أرصفة، دون تخطيط، دون حمايات، بعد أول «شتوة» تتكشف عيوبها، (أحيانا تتكشف عيوبها بعد ساعة واحدة من تعبيدها) فتبدأ بالتشقق، ثم تمتلئ بالحفر، وفي كثير من الأحيان، تتذكر البلدية أنها نسيت حفر كوابل للكهرباء، فتعيد حفر الشارع وتصلح خطأها، ثم تكتشف أنها نسيت تمديد كوابل الاتصالات، أو أنابيب المياه.. وفي كل المرات تتناسى تمديد شبكات لتصريف مياه الأمطار، أو للمجاري... (عبقرية الفشل)..
وماذا أيضا؟ تحتاج البلدية إلى تطوير البنية التحتية في منطقة ما، فتطلب من المقاول تنفيذ الأمر، وتحدد له سقفا زمنيا معينا، يتخلف المقاول عن الموعد أشهراً عديدة، وما من أحد يعترض، أو جهة تسأل!! (بلدية البيرة مثال)، ثم يأتي أي مواطن، فيقوم بتصميم مطب صناعي أمام منزله، يتسبب في أذية السيارات، وقد يتسبب بحوادث انقلابها! وإذا قامت البلدية نفسها بتصميم مطب صناعي، ففي أغلب الأحيان لا يكون مطابقا للمواصفات القياسية الهندسية.. ثم تأتي تعديات المواطنين؛ يعلّقون إعلاناتهم فوق اللوحات الإرشادية (إن وجدت أصلا)، يلقون بالقمامة من نوافذ سياراتهم، أو يأتي سائق خلاط إسمنت فيلقي بتالي حمولته على جانب الطريق، أو تأتي شركات الخدمات (كهرباء، مياه، اتصالات) بحفر جانب الشارع لتمديد شيء متعلق بالبنية التحتية، وبعد أن تنهي عملها، تقوم بترقيع ما أفسدته، بالشكل الذي يشوه الشارع (ولا من حسيب ولا رقيب)..
وماذا أيضا؟ داخل المدن هنالك أشكال لا حصر لها من التعدي على الشوارع والأرصفة.. من قبل الباعة الجائلين، والبسطات، وأصحاب المحلات، والمواطنين... البلدية في كثير من الشوارع لا توفر سلالا للمهملات، فيضطر البعض لإلقاء نفاياتهم على الرصيف، البعض حتى بوجود سلة مهملات، يلقي بزبالته في الشارع دون أن تهتز فيه شعرة! (المسؤولية مشتركة رسميا وشعبيا)..
تعبيد الشارع يتطلب جهة ممولة ومشرفة (البلدية) وجهة منفذة (المقاول)، وجهات رقابية (مؤسسات الدولة، المواطنين)، وهذه الحلقات متصلة ببعضها، لذلك، أخطاء الشوارع وعيوبها تتحمل مسؤوليتها البلديات (رئيس البلدية، والدائرة المختصة، والمهندس المسؤول)، ويتحمل المسؤولية الشركة المنفذة (صاحبها، والمهندسون، والعمال، والسائقون..).. وتتحمل المسؤولية وزارة الأشغال، ووزارة الحكم المحلي ورئيس الحكومة، وأيضا كل الجهات والمنظمات التي تدعي أنها لمحاربة الفساد.. الخطأ في تنفيذ تعبيد شارع ليس أمرا هينا.. لأنه يلحق الضرر بالسيارات والمواطنين ويعرض حياتهم للخطر.. لذلك هو ضرب من الفساد، سواء كان باتفاق بين البلدية والمقاول، أو كان بتواطؤ أحد الطرفين، أو لمجرد قبوله وصمته عن الخطأ..
وطبعا، رئيس البلدية، والمحافظ، والوزير، والرئيس، ورئيس الحكومة، وكبار المسؤولين وصغارهم.. يمرون من هذه الشوارع، بكل عيوبها ومصائبها، ولا يلتفتون للأمر، بل إن الأمر لا يعنيهم، لأنهم في الغالب يمرون بسيارات فخمة ونوافذ معتمة، فلا يكتشفون تلك الأخطاء (على افتراض أنهم لو اكتشفوها سيتصرفون، وهو مجرد افتراض خاطئ).. جميع سكان المنطقة وزوارها ومواطنو الدولة يمرون من هذه الشوارع، يعانون منها، ويتأذون من عيوبها.. قد يتذمرون، وقد يعترضون، وقد يصبون لعناتهم.. لكنهم في الواقع لا يفعلون شيئا حقيقيا، سوى الانتقاد والسخرية.. (المواطن لحد الآن لا يعرف واجباته، ولا يعرف كيف يدافع عن حقوقه، ولا يدرك أهمية صوته، وأهمية تحركه)..
عند تعبيد شارع، فإن المجتمع بأسره تقريبا يشترك في ذلك، سواء بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، وأي خلل في تعبيده يكشف عن سلسلة لا منتهية من عيوب المجتمع؛ وبالتالي يمكن القول إن المجتمع إذا نجح بتعبيد شارع على أحسن وجه، وبالشكل الصحيح، فإنه مؤهل لبناء دولة، وبما أن أغلبية شوارعنا غير مؤهلة، وجميعنا متواطئ مع هذه الجريمة.. يعني أمامنا سنوات طويلة قبل أن نكون مؤهلين لبناء دولة ومجتمع بما يليق بالإنسان.