غـزة.. برميـل بـارود عـلى وشـك الانفجــار

20171103082756
حجم الخط

حساب الربح والخسارة الذي تجريه «حماس» في غزة لنفسها، كي تقرر هل، أو بالأساس متى، تخرج الى معركة أخرى ضد إسرائيل، هو أيضا «السبيل المرسوم» الذي تدرسه محافل التقدير في البلاد بسبع عيون، في محاولة لفهم نوايا العدو و»الدخول الى رأسه».
السؤال ماذا ستربح «حماس» وماذا ستخسر في مواجهة أخرى مع إسرائيل هو – نظريا على الأقل –السؤال الأساس، الذي يفترض أن يساعد الاستخبارات في التقدير السليم لمستوى احتمالية معركة اخرى في الجنوب، وبالأساس توقيتها.
عندما يصف رئيس شعبة الاستخبارات «أمان»، اللواء هيرتسي هليفي، أزمة اقتصادية شديدة في قطاع غزة، فهو يقصد عمليا القول إن ساعة الرمل تنفد؛ وأننا نقترب من اللحظة التي تقول «حماس» في غزة لنفسها إن الوضع الاقتصادي في القطاع سيئ جدا لدرجة أنه لم يعد لها ما تخسره.
غير أنه بالمقابل، توجد معطيات معاكسة تفيد بأنه لا يزال لـ «حماس» مع ذلك ما تخسره: الدول المانحة التي تعهدت بعد «الجرف الصامد» بأن تحول الى غزة نحو 4 مليارات دولار، كي تعيد بناءها، حولت حتى الآن نحو خُمس المبلغ فقط. بعضها تطلب من «حماس» أدلة وضمانات على أن هذه الأموال لن تستخدم الا لإعادة البناء المدني، وليس لتنمية ذاتية للسلاح او لبناء الخنادق والأنفاق. واذا بادرت «حماس»، الآن، الى جولة اخرى، فهي تخاطر بفقدان الاحتمال، أو على الاقل التأجيل الطويل، بتلقي هذه الأموال.
وثمة متغيران معاكسان آخران، كل واحد منهما يمكنه أن يؤدي بـ «حماس» الى سلوك آخر: فجهاز الأمن  فكر، قبل بضعة أشهر فقط، بالعودة للسماح للعمال من غزة بالعمل ونيل الرزق في إسرائيل والحصول هنا على أجر يومي يفوق ضعفي أو ثلاثة أضعاف الأجر الذي يكسبونه في غزة. وتحدث وزير الدفاع ليبرمان عن ذلك علانية. فمعدل البطالة في غزة بلغ منذ الآن 58 في المئة، وعدد حالات الانتحار هناك على هذه الخلفية ارتفع جدا في السنتين الأخيرتين.
إسرائيل، كما هو معروف، تنقل الى القطاع أيضا تموينا جاريا من الغذاء، المواد الاستهلاكية البيتية، الادوية، الوقود، بل حتى قليلا من مواد البناء. والمواجهة الآن ستقطع لفترة غير معروفة التوريد الإسرائيلي، وربما أيضا المصري الى غزة، وبالتأكيد ستؤجل لزمن غير معروف القرار الذي لا يزال يوجد على جدول الاعمال – السماح للعمال من غزة العودة للعمل في إسرائيل.
من الجهة الأُخرى تواجه صورة  الواقع المحتملة هذه قيادة جديدة، ذات مزايا «متطرفة»، يقف على رأسها يحيى السنوار، من كبار الذراع العسكرية لـ «حماس» سابقا. والى جانبه، في «المكتب السياسي» الجديد للمنظمة، يوجد الآن على الاقل خمسة أعضاء آخرون يتماثلون مع الذراع العسكرية للمنظمة (كتائب عز الدين القسام) اثنان منهم محرران في صفقة شاليت، قضيا فترات حبس في السجن الإسرائيلي. والتوجه الطبيعي لمركز القوة الجديد هذا في «المكتب السياسي» يميل الى «التطرف» والمواجهة.
أحد الاعتبارات التي من شأنها ان تدفع قيادة «حماس» الجديدة الى المواجهة هو مدى صلاحية الأنفاق الهجومية المجتازة للحدود – نحو 15 نفقاً حسب المنشورات الأخيرة – والتي لا تزال في يد «حماس» بعد «الجرف الصامد». كلما مر الوقت وساد الهدوء، يمكن لإسرائيل أن تتقدم بارتياح وبلا عراقيل في المشروع الهندسي والتكنولوجي المضاد للأنفاق في حدود القطاع.
من زاوية نظر «حماس» فان هذه الأنفاق، كأدوات هجومية ضد إسرائيل، تعيش على «زمن مستقطع»؛ وهي حقيقة من شأنها أن تشجع «حماس» على استخدامها قبل أن تجعلها إسرائيل غير قابلة للاستخدام قبل القتال، او تنجح في خلق آليات تجعل استخدامها صعباً.

للميدان قوانين خاصة به
«لاعبان» آخران، كل واحد منهما يمكنه أن يؤثر على «حماس»  بشكل مختلف، هما وزير الدفاع، أفيغدور ليبرمان، من جهة، و»داعش» من جهة أُخرى: بخلاف موشيه بوغي يعلون، سلفه في المنصب، فان وزير الدفاع الحالي حذر «حماس» من انه اذا فتحت معركة اخرى في غزة، فستحرص إسرائيل على ألا تبقى «حماس» تحكم القطاع.
أما انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة فيمنح إسرائيل ظاهراً حبلاً أطول مما في الماضي، كي تحقق هدف اسقاط حكم «حماس» في غزة. وفي «حماس» واعون لذلك، ولكن للميدان توجد، غير مرة، قوانين خاصة به.
أحد «اللاعبين» الذين من شأنهم أن يفاقموا الوضع هو «داعش»، او في صورته الغزية – رجال المنظمات والجماعات السلفية، من مؤيدي تنظيم الدولة الاسلامية في غزة وفي سيناء. حالتان من اطلاق الكاتيوشا من سيناء الى الأراضي الإسرائيلية في شباط الماضي – واحدة الى ايلات واخرى الى النقب – هما من فعل هذه المنظمات، وكذا أيضا إطلاق الصواريخ باتجاه شاعر هنيغف.
ترى إسرائيل «حماس» مسؤولة عن كل اطلاق للنار من القطاع، وقواعد اللعب المتشددة في عهد وزير الدفاع ليبرمان أدت الى رد ناري «غير متوازن» على نار الكاتيوشا التي أطلقتها المنظمات السلفية، والى اصابات مباشرة اكثر لاهداف «حماس» على طول خط الجدار.
وصعد الرد الإسرائيلي الشديد لفظيا على الاقل التهديد الحمساي. فقد أعلن قادة المنظمة علنا بانهم لن يحتووا بعد اليوم «المعادلة الجديدة» لليبرمان، واذا ما قصفوا مرة اخرى  فسيردون بشدة. فهل التسلق على «شجرة عالية» كهذه ملزم حيال الجمهور الفلسطيني؟
من زاوية نظر متشائمة – ومحافل التقدير ملزمون بان يأخذوا في الحسبان الامكانية الأسوأ وعرضها امام أصحاب القرار – فان بعضاً من العوامل التي جرت إسرائيل و»حماس» الى المواجهة في تموز 2014 موجودة هنا مرة اخرى، وانضمت اليها الآن عوامل خطر اخرى.
ان ضائقة السكان في غزة، عشية «الجرف الصامد»، هي أحد الأمثلة التي ذكرها تقرير المراقب، الاسبوع الماضي، وليس صدفة أن رئيس «امان»، هيرتسي هليفي، يتحدث الان بالذات عن ضائقة مشابهة.
إن الوضع الاقتصادي في غزة في حالة سيئة للغاية. فقبل سنتين توقعت الأمم المتحدة بانه حتى العام 2020 لن تكون في غزة مياه ملائمة للشرب. فالخزانات الجوفية في غزة استنفدت نفسها في أعقاب النهل الزائد. ومنشأة التحلية الوحيدة لا تزود الا نحو 10 في المئة من استهلاك المياه في القطاع، واسعار المياه ترتفع. الاغنياء يدفعون مالا طائلا للحصول على المياه المحلاة، ولكن معظم الجمهور يستهلك مياها ذات درجة ملوحة أعلى لأهداف ليست الشرب، كالغسيل، النظافة، والاغتسال.
كما ان توريد الكهرباء الى غزة يتعثر، رغم المساعدة الإسرائيلية والمصرية. فالبيوت في قطاع غزة لا تتلقى الكهرباء الا سبع ساعات في المتوسط يومياً.
واذا لم يكن هذا بكاف فالبطالة ايضا في القطاع تتصاعد وتقترب من 60 في المئة؛ ونحو ثلث سكان القطاع لا يرتبطون بشبكة المجاري. وقنوات المجاري ضيقة ومفتوحة، وجور الامتصاص ترفع مستوى الاصابة بالامراض النابعة من التلوث. وفي شواطئ السباحة في عسقلان يمكن غير مرة رؤية بواقي المجاري والمياه العادة التي حملتها التيارات البحرية من شواطئ غزة شمالا. ويمكن كما أسلفنا ان يضاف الى ذلك التأخيرات والتجميدات لأموال «الدول المانحة»، ومواد البناء التي تنقل الى غزة بالتقنين، واذا بكم تتلقون مفجرا آخر في برميل البارود الذي يسمى غزة.

 منطق مقلوب
كيف يؤثر كل هذا على «حماس»؟ صحيح أن المنطق يستوجب توجيه كل مساعدة وميزانيات إعادة البناء لصالح السكان، ولكن «منطق» «حماس» في غزة ليس بالضرورة المنطق السائد. فـ «حماس» تستثمر الكثير من الأموال ووسائل المساعدة في إعادة بناء قوتها العسكرية. من زاوية نظر المنظمة ينبغي تنفيذ الواجب الديني لفكرة المقاومة، حتى لو لم يكن احتمال النصر في اطار هذه المقاومة عاليا.
صحيح أن السنتين والنصف الأخيرة كانت هي الاهدأ في العقد الأخير – 45 صاروخا فقط اطلق من القطاع، ومنها 4 فقط سقطت في مناطق مأهولة. غير أن هذا الهدوء تستغله «حماس» كي تستعيد قسما على الاقل مما فقدته في «الرصاص المصبوب».
أما الأنفاق الهجومية فلا تزال هنا. فالمواد الخام التي هي ضرورية لاعادة البناء المدني، وجهت لانتاج وسائل قتالية واعادة بناء شبكة الأنفاق. فقد سيطرت «حماس» على المواد الخام هذه – من اسمنت، حديد وخشب – حتى قبل أن تصل الى اهدافها المدنية، وفي بعض الحالات صادرت أو اشترت هذه المواد من المواطنين.
في جنازة عصام عمر سعيد القطناني، نشيط «حماس» الذي قتل في انهيار نفق في الشجاعية، خطب خليل الحية، عضو المكتب السياسي لـ «حماس»، وقال ان نشطاء كتائب عز الدين القسام سيواصلون حفر الأنفاق ليل نهار، لان الأنفاق هي «السلاح الأفضل الذي سيهزم إسرائيل».
كان لدى «حماس» عشية حملة الجرف الصامد نحو 11 الف صاروخ، معظمها لمسافات قصيرة والقليل منها لمسافات بعيدة (حتى 160كيلو مترا). في نهاية الحملة بقي لدى «حماس» نحو ثلث كمية الصواريخ، بعد أن أطلقت نحو 4 آلاف منها الى إسرائيل، وفقدت جزءا آخر في الهجمات الإسرائيلية.
ويقول خبراء «مركز معلومات الاستخبارات والإرهاب» ان «حماس» تعطي الآن أهمية عالية لزيادة مخزون الصواريخ ومخزون قذائف الهاون لديها، وتشدد على السلاح الصاروخي ذي المدى القصير. وبالتوازي، تدرب «حماس» قوات خاصة لنقل الحرب الى الاراضي الإسرائيلية على نحو مفاجئ، سواء من خلال الأنفاق الهجومية أم من خلال «الكوماندو البحري»؛ التسلل الى بلدات إسرائيلية لتنفيذ عمليات واختطاف إسرائيليين لغرض استخدامهم كـ «اوراق مساومة».
بعد «الجرف الصامد»، كثفت «حماس» ووسعت تواجدها على طول الحدود مع إسرائيل وبنت سلسلة من الاستحكامات المتقدمة على مسافة بضع مئات من الأمتار عن الجدار الأمني. والى جانب الاستحكامات بنت ايضا أبراج مراقبة، وبجوار الجدار الأمني شقت طريقا.
والى جانب ذلك تحاول «حماس» كل الوقت تطوير مسارات بديلة لغرض تهريب الوسائل القتالية، العتاد العسكري والمواد الخام. وقد تضررت التهريبات عبر شبه جزيرة سيناء بشدة بعد أن عمد المصريون الى سد هذه القناة، حيث دمروا الأنفاق واغلقوا معبر رفح. والبديل الآن هو التهريبات من إسرائيل، في ظل استغلال معبر البضائع المدنية عبر المعابر وكذا استخدام المسار البحري، بين القطاع وبين سيناء، من خلال الصيادين المحليين.
كما أن التعاون بين فرع «داعش» في سيناء وكتائب عز الدين القسام يساعد «حماس». ففي السنتين الاخيرتين، بينما تقاتل «حماس» ضد المنظمات السلفية في القطاع، ساعدت «داعش سيناء» في إنتاج وسائل قتالية ومعالجة الجرحى، بينما «داعش سيناء» ساعدت «حماس» في تهريب وسائل قتالية الى غزة تأتي بها من ليبيا ومن السودان.
«حماس»، حسب التقديرات في الجيش الإسرائيلي، لم تستعد الوسائل والقدرات التي كانت في حوزتها قبل حملة الجرف الصامد. ويقدر رجال «مركز معلومات الاستخبارات والإرهاب» بالتالي فانه في المواجهة القادمة ستحاول حماس قبل كل شيء ضرب كل البلدات والاهداف العسكرية المجاورة للحدود. فقدرتها للوصول الى مسافة أبعد تضررت وتقلصت بقدر كبير، ان لم تكن فقدتها تماما.
لكل هذا ينبغي أن يضاف كما أسلفنا الى التركيبة الجديدة لقيادة «حماس». فقد انتخب للمكتب السياسي في القطاع 15 عضوا. وعلى رأس المكتب السياسي يقف كما هو معروف يحيى السنوار، من مؤسسي الذراع العسكرية للمنظمة، الذي حررته إسرائيل في صفقة شاليت.
كان السنوار مشاركا في تخطيط سلسلة من العمليات التي قتل فيها إسرائيليون، وكذا في قتل فلسطينيين كثيرين. نائبه، خليل الحية، كان أيضا عضوا في المكتب السياسي السابق لـ «حماس». قتل ابنه في العام 2008 في جنوب القطاع حين حاول تنفيذ إطلاق صواريخ كاتيوشا على إسرائيل، وزوجته وأبناؤه الثلاثة قتلوا بنار مدفعية الجيش الإسرائيلي اثناء «الجرف الصامد».
وبخلاف السنوار، الذي يقل من التصريحات، فان الحية يدعو بين الحين والآخر الى تشديد «الإرهاب» ضد إسرائيل، ومؤخراً دعا إسرائيل الى الاستعداد لضربة جدية. فقد هدد بان «حماس ستضرب من كل صوب، من الارض، من داخل الأنفاق، من قلب البحر ومن السماء». وفي مناسبة اخرى اوضح الحية بان «حماس ستواصل العمل على اختطاف جنود إسرائيليين بهدف استبدالهم بسجناء فلسطينيين محبوسين في إسرائيل».
وبين الأعضاء الآخرين في المكتب السياسي الجديد لـ «حماس» يوجد محمود الزهار، الذي شغل منصب «وزير الخارجية» في حكومة «حماس» برئاسة إسماعيل هنية. وقد دعا الزهار في الماضي الى تحويل «الإرهاب» الشعبي الى انتفاضة عسكرية؛ وروحي مشتهى، محرر آخر من صفقة شاليت، كان حكم سبعة مؤبدات على قتل عملاء مع إسرائيل؛ ومروان عيسى، المسؤول السابق عن وحدة العمليات الخاصة في «حماس»؛ وسامح السراج، الذي كان هو أيضاً في المكتب السياسي السابق لـ «حماس» ودعا «الى تأهيل جيل يحمل علم الاسلام ويحرر فلسطين من دنس الاحتلال».

«هذر زائد»
أبدى مراقب الدولة في تقريره الاخير ملاحظة على السلوك الحربي في «الجرف الصامد»، إذ لم يعنَ بما يكفي «بتعطيل» سياسي للالغام التي زرعت في الطريق الى تلك الحرب. بعض عناصر القنبلة الموقوتة في حينه تحوم الآن مرة اخرى في الفضاء، ويوجد غيرها. هذه المرة توجد عدة اقتراحات على جدول الأعمال، ولكنها لا تبدو ذات احتمال للتحقق في المستقبل القريب.
يتحدث مثلا رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، عن صيغة «التجريد مقابل الإعمار»، والتي ترفضها «حماس»، فيما اقترح الوزير إسرائيل كاتس اقامة ميناء في غزة.
مصر، التي هي لاعبة أُخرى تؤثر على ما يجري في القطاع، تبدي في الأشهر الأخيرة مراعاة أكبر بقليل وتتخذ بوادر طيبة تجاه حكم «حماس» في غزة. فقد خففت قليلا من شروط الاغلاق على القطاع، وتسمح بعبور مزيد من البضائع الى هناك. والسؤال الى أين تتجه «حماس» وهل الربيع المقترب سيفاجئنا بجولة دموية اخرى – هو سؤال ليس له جواب واحد.
لقد تحدث الوزيران يوآف غالنت ونفتالي بينيت قبل بضعة اسابيع عن إمكانية أن يقع في الربيع القريب تصعيد في الجنوب. ووصف وزير الدفاع، افيغدور ليبرمان، أقوالهما بانها «هذر زائد ليس له أي صلة بالواقع على الأرض». مهما يكن من امر فللجنوب قوانينه ومنطقه. يخيل أن الحملات الخمس التي بادر اليها الجيش الإسرائيلي في القطاع في العقد الماضي أثبتت ذلك.