من يعتقد أن دولة غزة ستقام باحتفال تاريخي وبتوقيع اتفاق أمام الأضواء وعدسات التصوير لا يعرف أن محطات التاريخ ليست متشابهة ولكل تجربة فرادتها ولكل فعل إسرائيلي ماكر مساراته المختلفة، ومن يعتقد أن المصالحة بين الفلسطينيين لازالت ممكنة لا يعرف أن دهاء السياسة أبعد كثيراً من النوايا الوطنية الطيبة، ومن اعتقد يوماً أن هذا الانقسام السياسي والجغرافي كان واحداً من مصادفات القدر عليه أن يعيد قراءة التاريخ مرات ومرات وأن يربط بين جزيئاته التي سبقت بعقود ليصل الى حيث الواقع الذي يتجلى أمامنا عارياً مجرداً من الشعارات وأوراق التوت التي تساقطت تباعاً.
ليس هناك مصالحة وبات من الواضح لمن يجيد قراءة السياسة أن تلك أصبحت واحدة من مستحيلات الراهن الفلسطيني، فماذا يمكن أن نسمي ما حدث ويحدث في غزة؟ هذه الجغرافيا التي تمثل أكثر قليلاً من 1% من فلسطين التاريخية وأكثر قليلاً من 5% من الأراضي التي احتلت العام 67 والتي يطالب الفلسطينيون بإقامة دولتهم عليها .. وإذا كانت هذه المساحة لن تعود كجزء من الجغرافيا ولا النظام السياسي الفلسطيني فما هو الشكل القانوني والنظام الذي يتشكل فيها وماذا يمكن تعريفه؟
إذن، نحن أمام حقيقة ينبغي أن تكون صادمة بالنسبة لنا، مارسنا ما يكفي من عملية الإنكار للمرض الوطني، لكن ما هو أمامنا أكبر كثيرا من علاجه بالنفي والابتهال الديني بالتدخل الإلهي لإنهاء الأمر، أو بالدعوة السياسية لتصويب المسار حيث اتضح أن القطار الوطني انزلق عن السكة وذهب نحو مسار مختلف تماما وعلى وشك الوصول لمحطة لم يقررها الفلسطيني بل قررها الإسرائيلي الذي عبث بالفرامل ولعب بعقل السائق وزين له طريقا أخرى استدرجه إليها.
دعونا نتأمل واقعا أصبح حقيقة قائمة دون ان نستمر أكثر في خداع أنفسنا كمقدمة للاعتراف به لحسم الجدل ولمعرفة الطريق الذي نسير إليه أو يتم استدراجنا إليه من قبل مجهول أو معروف لا فرق كثيرا طالما أننا نعرف اكثر في الانقسام:
• نحن أمام برنامجين سياسيين متعاكسين ومتضاربين بات من الواضح بعد كل هذه السنوات أن إمكانية التقائهما تكاد تكون صفرية بل أن كلا منهما نقيض للآخر وفي حالة عداء معه إذ يعتقد أي منهما أن البرنامج الآخر يشكل خطرا شديدا على برنامجه وعنصر إجهاض له لا يستقيم إلا على أنقاض الآخر.
• نحن أمام منطقتين جغرافيتين منفصلتين متباعدتين بينهما الإسرائيلي، اقتطعت واحدة عن الأخرى بفعل فلسطيني منظم وقف خلفه محرضون على الانقسام بعضهم معلن وبعضهم خفي كانوا يعرفون تماما إلى أين يسيرون الأمور مستغلين سذاجة البعض وحداثة تجربته السياسية مأخوذا بالشعارات وكراهية الآخر تشكيكا وتخوينا.
• نحن أمام محاولات من الترميم أخذت ما يكفي من مساحة زمنية وفرص كانت كافية لنعرف إن كان ممكنا أم لا والنتيجة التي أمامنا أن ترميم ما انكسر وطنيا وإنسانيا وسياسيا مسألة في غاية الصعوبة بل ومستحيلة، بعيدا عن أية آمال أو أوهام بعودة القطار للخلف بعدما قطع أكثر من عشر سنوات سيرا في طريق أخرى تائها وكانت السنوات الماضية كفيلة بصياغة تراث سياسي لكل منهما وهوية مختلفة أصبحت قيدا على إمكانية التقارب.
• نحن أمام حالة فلسطينية حديثة العهد بالسياسة وهي نتاج واقع مشوه ومغلق أنتجت مفاهيمه السياسية المشوهة حيث يعتبر أن الشراكة هي إدخال الغرباء للبيت وفهمه للعمل الحكومي والسياسي أنه عبارة عن أسرار حزبية بل وأن الشراكة هي انتقاص من الحصة التي توفرت في لحظة ما.
• نحن أمام فعل إسرائيلي مدروس تقف خلفه مراكز دراسات ودبابات الفكر الثقيلة وأساتذة الأرقام وعلماء الديمغرافيا الذين قرروا مبكرا أن غزة تشكل خطرا استراتيجيا على المشروع الصهيوني برمته إن بقيت في بطن إسرائيل.
وحقائق أخرى كثيرة يمكن سردها والتوقف أمام كل واحدة منها تحمل من الدلالات ما يعفينا عن التحليل والاستنتاج لمعرفة أين تسير الأمور وما الذي يتشكل وكان هذا معروفا مبكرا فقد كتب كثير من الزملاء الكتاب مبكرا عن دولة غزة وأبرزهم الدكتور إبراهيم أبراش في كتابه «صناعة الانقسام» والذي يعقد غدا مركز أطلس للدراسات بغزة نقاشا له، والبعض تناول المصطلح على شكل إمارة غزة وهي قائمة بالفعل ولا يحتاج الأمر إلى تسمية وإعلان ..وقد عدت قبل كتابة هذا المقال للأرشيف لاكتشف تكرار التحذير من دولة غزة في عدة مقالات كتبتها ما أصبح مملا ولكن لا أحد كان بإمكانه وقف تدفق السياسة نحو المسار المريح للإسرائيلي والذي يشكل حلا لمعضلته الحقيقية منذ أن بدأت حسابات العقل لديه بعد احتلال هذا القطاع الصغير بعد الإفاقة من نشوة انتصار العام 67.
الآن، يعود الحديث المتكرر عن دولة غزة كأنه اكتشاف العام، قد يكون ذلك لمجرد أننا لا نجيد قراءة السياسة وربط أحداثها ولا نفكر بشكل استراتيجي وليس لدينا مراكز دراسات حقيقية وأن الذين يفكرون لدينا محاربون من قبل المؤسسة السياسية والحزبية ويجري متابعة آرائهم وتصنيفها في إطار صغائر المناكفات الحزبية دون احترام لأية رؤية تقدم من قبل هؤلاء، ففي حين أن النظام السياسي في العالم المتقدم يسير وفق أفكار يضعها الباحثون والمثقفون والمفكرون ومراكز الدراسات لكن أنظمتنا السياسية تتمنى أن هؤلاء لم يكونوا موجودين أصلا ليتفرد العشوائيون بالقرار وبتوجيه الرأي العام الذي لا زال يحترم المثقفين.
الآن وماذا، بعد أن اكتشفنا على عتبة العام الجديد انه يجري صناعة دولة غزة وأن الاستدراج الذي تم منذ سنوات كان يطبخ على مهل أحيانا وبصخب الحروب أحيانا أخرى هذا المخطط يأتي السؤال المتأخر جدا: ما العمل لمواجهة ذلك؟ وهو سؤال الضرورة الوطنية وليس سؤال الضرورة الفصائلية والحزبية التي ساهمت بما نحن ذاهبون إليه من كارثة تسدل ستار المشروع على دولة غزة.
الجواب بإنهاء هذا الانقسام بما يتطلب من تنازلات حتى لو اقتضى الأمر القضاء على مصالح قوى وفصائل كبرى لأن الوطن والمشروع أهم من كل القوى والأحزاب ومصالحها التي تشكل إضرارا بالوطن .. ما يكفي من تنازلات داخلية لصد المشروع الإسرائيلي .. الجواب أيضا على سؤال: كيف يمكن وأد المشروع الإسرائيلي، الجواب ببساطة بالمصالحة والانتخابات ونظام سياسي موحد تصبح غزة جزءا منه..!
رونالدو إلى جانب بنزيما مرة أخرى لمواجهة مانشستر سيتي
28 سبتمبر 2023