قراءة أخرى في «إدارة التوحش» وممارسات «داعش»

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

في مقالة سابقة، استعرضنا بإيجاز كتاب "إدارة التوحش"، وتبين لنا أنه عبارة عن البرنامج العملي والدليل الفقهي لتنظيم داعش.. يُقال إن القوات الأميركية هي التي عثرت عليه في أفغانستان سنة 2004.. وقامت "وزارة الدفاع" بترجمته، ونشره على الإنترنت.
وهو أمر يثير علامات الاستفهام. المهم أن الكتاب صدر قبيل انشقاق داعش عن تنظيم القاعدة.. وأهمية تحديد سنة إصدار الكتاب تكمن في تتبع الأحداث والعمليات التي نفذتها القاعدة وداعش فيما بعد، والتي جاءت تنفيذاً حرفياً لما جاء فيه.. أي أن داعش أعلنت في هذا الكتاب عن خطتها المستقبلية بشكل واضح وصريح.
يقدم الكتاب شرحا وافيا للأسس الأيديولوجية للتنظيمات الجهادية، ويمثل نقلة نوعية في الخطاب السلفي المتشدد، والذي يمثله تنظيم داعش، ويكشف عن الجانب المهم في انشقاق داعش عن القاعدة، وهو تغيير أولوياتها؛ حيث باتت أولوية داعش العدو القريب (الحكومات وأجهزتها الأمنية، المرتدين، الشيعة، الأقليات، والسُنّة المعارضين)، في حين كانت أولوية القاعدة هي العدو البعيد (أميركا والدول الصليبية)، فلذلك نجد أن القاعدة ضربت أميركا أولا، بينما اعتبرت داعش أن إقامة دولة الخلافة أهم من محاربة أميركا والصليبيين.
بحسب شرح الكتاب فإن "إدارة التوحش" تعني خَلق منطقة لا تخضع لسلطة وقوانين الدولة، لتعم فيها الفوضى والقتل والرعب والتوحش، أو الانتقال إلى مناطق تعرضت للفوضى بسبب حرب أهلية مثلا، وإدارتها بمنطق "إدارة التوحش"، حيث يضطر الناس لقبول حكم هذا التنظيم (بإدارته المتوحشة) باعتبارها البديل الوحيد للفوضى والخراب.
وفقا للبرنامج العملي لإستراتيجية داعش، يقوم التنظيم بدراسة الدول التي يوجد فيها مناطق رخوة، أو مُمكن إنشاء مناطق رخوة متوحشة فيها، ثم يبدأ بضرب الدولة في أماكن مُعينة عديدة، وإن كانت ليست ضربات قوية ولكن استمرارها يمنع الدولة من التقاط أنفاسها، فمثلاً، ضرب كنيسة يجعل الدولة تصرف جهودها لحماية بقية الكنائس، أَي إجبارها على إنفاق مزيد من الجهود والأموال، ثم اختيار يوم لضرب البنوك، فتقوم الدولة بتأمين حراسات للبنوك الأخرى، وهكذا تخصص يوما لضرب الجوامع، ويوما للجسور، ويوما للمرافق السياحية، إلى أن يتم استنزاف الدولة.
والخطير أن هذه الهجمات تحتاج مجموعات صغيرة، أو أفرادا، ما يصعّب المهمة على أجهزة الأمن.
وحسب الكتاب، فإن مجموع نتائج تلك الأعمال الصغيرة سيؤدي للانتصار الكبير، حيث تُنهك الدولة تدريجياً اقتصاديا وسياسيا وأمنيا.. يُساند هذه العمليات حرب إعلامية تُزعزع ثقة الدولة بنفسها وثقة شعبها بها، وترفع من معنويات أفراد التنظيم وتجعله يكسب عناصر جديدة، وخاصة من فئة الشباب.
وحسب هذه النظرية؛ فإن عناصر الأمن والجيش الكفؤة والمدربة سيتم توفيرها بالدرجة الأولى لحماية كبار الشخصيات، والمرافق الحكومية والاقتصادية، والبعثات الأجنبية والسفارات والمطارات.. ما يخلق جيوبا أمنية رخوة في مناطق معينة، يتسلل إليها التنظيم، ويحكم سيطرته عليها (مناطق إدارة التوحش)، وهذه المناطق قد تكون حياً في مدينة، أو قرى صغيرة.. لكنها ستكون منصة انطلاق للتمدد إلى مناطق أخرى أوسع وأهم.. حيث يؤدى هذا الوضع، إلى المزيد من التدهور، مُسبباً المزيد من الانسحابات لقوات النظام، وهو ما يترتب عليه مزيد من التوحش، وهكذا. تماما كما حدث في العراق وسورية؛ حيث بدأ تنظيم داعش في الفلوجة والرمادي.. ثم امتدت رقعته من الموصل إلى الرقة.
بعد سيطرة التنظيم على "مناطق التوحش"، يأتي دوره لترويض هذه "الفوضى المتوحشة"، أي مرحلة إدارة التوحش، من خلال إدارة هذه المناطق لتحقيق عدة أمور، أهمها: فرض الأمن الداخلي، وتأمين منطقة التوحش من غارات "الأعداء"، وإقامة "القضاء الشرعي" في مناطق سيطرتها، ورفع المستوى الإيماني والكفاءة القتالية لشباب مناطق التوحش، وإنشاء المجتمع المقاتل بكل فئاته وأفراده عن طريق التدريب الميداني.
السعودية والأردن ومصر ما تزال حسب رؤية داعش في مرحلة شوكة الإنهاك، أي مرحلة إشغال الدولة وإنهاكها، ولو تتبعنا مجريات الأحداث في تلك الدول، والعمليات الإرهابية التي تعرضت إليها سنجد تطبيقا حرفيا لخطة داعش في إدارة التوحش.. في الأردن مثلا، استهدفت العمليات الإرهابية مرافق سياحية ومراكز أمنية في عدة مناطق، بهدف تشتيت جهود الدولة.. قد ينظر البعض لتلك العمليات على أنها صغيرة، ولا تشكل تهديداً جديا للأردن، وهذا صحيح، لكنها عمليات تأتي في سياق إستراتيجية طويلة الأمد يتبعها  داعش، تعتمد على مراكمة الإنجازات الصغيرة، وصولا للهدف الأكبر.
وقد كشفت أحداث قلعة الكرك والفتوى الأخيرة بتكفير المجتمع الأردني التغيير الذي طرأ على العقيدة القتالية لداعش بانتقالها من حالة استهداف الجيش والأجهزة الأمنية إلى استهداف المدنيين، فوفقاً لنظرية "إدارة التوحش" فإن الأردن يعتبر ولاية في دولة الخلافة، وعليه فإن هدم منظومته الأمنية والسياسية والاجتماعية هدف قائم بحد ذاته، لإثارة الفوضى وإشغال القوات الأمنية وصولا لانفراط العقد الاجتماعي كما حصل في سورية والعراق، تمهيداً لمرحلة تفكك وانهيار الدولة، وإنشاء حالة التوحش التي تسمح للتنظيم بالتمدد فيها.
ومع أن داعش لا تميز بين عسكري ومدني، بيد أن فتواها الأخيرة تعني بوضوح الانتقال من مرحلة تكفير الأجهزة الأمنية والجيش والنظام إلى مرحلة تكفير المجتمع الأردني ككل.
في مصر، تمكنت التنظيمات المتشددة من خلق مناطق هشة أمنيا، وتحويلها إلى منطقة "إدارة التوحش"، بالذات في سيناء، ولأنها لم تصل إلى المرحلة الثانية (السيطرة الكاملة على المنطقة)، فهي تلجأ إلى أسلوب استنزاف الدولة المصرية (المرحلة الأولى)، من خلال عمليات إرهابية متنوعة من حيث الأهداف والوسائل والأماكن، تارة تضرب كنيسة في القاهرة، ثم تضرب أنبوب الغاز في سيناء، أو تهاجم مركزا أمنيا في الصعيد، أو تضرب أهدافا على حدود ليبيا، ثم تعود لضرب أهداف في المدن الكبرى.. وهكذا، حتى تظل الدولة في حالة إنهاك دائمة، فتُستنزف قدراتها، وتتشتت جهودها، وتشغل قواتها في أماكن متفرقة.. إلى أن يصل التنظيم لمرحلة "إدارة التوحش" في أكثر من منطقة رخوة أمنيا، وهي سيناء.. ولها في ذلك إلى جانب أهدافها الأساسية، أهداف سياسية أخرى تتعلق بمنع مصر من استعادة مكانتها ودورها على الصعيدين الإقليمي والدولي، ومنعها من تحقيق الأمن الداخلي اللازم لأي عملية تنمية أو تطوير، فضلا عن كون سيناء مرشحة لسلخها عن مصر، وتقديم جزء منها كوطن بديل للفلسطينيين.