بعد المكالمة المهمة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس محمود عباس والتي كانت محادثة مجاملة لم تخل من تأكيد التزام الإدارة الأميركية بالسعي للتوصل إلى حل للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على قاعدة تلبية مصالح الطرفين، والأهم هو دعوة الرئيس أبو مازن لزيارة واشنطن، جاءت زيارة المبعوث الأميركي جيسون غرينبلات لتشكل محطة جدية في محاولة الرئيس ترامب دراسة تفاصيل ملف الصراع قبل الإقدام على أية خطوة من قبيل المبادرة إلى صياغة خطة لدفع العملية السياسية في المنطقة أو مجرد التدخل لحث الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على الجلوس والتفاوض. ويبدو من تسارع الأحداث أن ترامب يأخذ موضوع التوصل إلى تسوية أو اختراق فعلي في هذا الملف على محمل الجد.
لقاء مبعوث الرئيس ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمس الأول، الذي امتد إلى أكثر من خمس ساعات، يشير إلى رغبة الإدارة الأميركية في التعلم والإلمام وكذلك اللقاء مع الرئيس أبو مازن أمس بكل التفاصيل المتعلقة بقضايا الصراع ومواقف الطرفين، ومن الواضح أنهما ليسا لقاءين لمجرد التعارف أو للتظاهر بالاهتمام بما يحدث هنا. ومع أنه ليس واضحاً ما دار في اللقاء مع نتنياهو إلا أن موضوع الاستيطان على ما يبدو احتل حيزاً كبيراً من النقاش بناءً على رغبة نتنياهو في التوصل إلى صيغة اتفاق مع إدارة ترامب يمكن أن يتعايش معها الائتلاف الحكومي الإسرائيلي أو يمكنه أن يصمد كما هو، خاصة في ظل التوتر الذي يسود بين حزب (البيت اليهودي) وبين حزب "الليكود" الذي يتزعمه نتنياهو على خلفية الاستيطان. فقد رفض (البيت اليهودي) اقتراحاً لرئيس الائتلاف الحكومي في الكنيست دافيد بيطان (ليكود) بتأجيل التصويت على ضم مستوطنة "معاليه أدوميم" الواقعة بالقرب من القدس إلى إسرائيل لمدة ثلاثة شهور حتى لا يتم إحراج نتنياهو، خاصة وأن التصويت على الضم من المفروض أن يتم خلال زيارة المبعوث الأميركي، وقد هدد "الليكود" باللجوء إلى فيتو رئيس الحكومة لمنع التصويت على التشريع الجديد.
ومن الأمور التي يمكن استشفافها من الانتخابات التمهيدية في الأحزاب الإسرائيلية في اليمين واليسار على السواء أن الجميع يستعد للانتخابات المبكرة التي قد تجري على خلفية تقديم لائحة اتهام ضد نتنياهو في قضايا الفساد التي يجري التحقيق معه بشأنها، وبالذات بعد أن بات جلياً أن تقديم لائحة الاتهام أضحى مسألة وقت. ويبدو أن حليف نتنياهو حزب (البيت اليهودي) بدأ ينسحب من مواقف سابقة لدعم نتنياهو على أرضية الخلاف حول البناء الاستيطاني. فقد رأى نتنياهو ومعه وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان أن أي ضم لمستوطنات الآن سيقود إلى أزمة سياسية فورية مع الإدارة الأميركية بعد الرسالة التحذيرية التي أرسلتها هذه الإدارة إلى الحكومة الإسرائيلية.
نتنياهو يفهم العلاقات الدولية ومعادلاتها المعقدة وهو يريد أن يبقي لنفسه القدرة على المناورة ولا يريد أن يخسر شيئاً، وفي نفس الوقت فهو لا يريد أن يقدم أي تنازلات جوهرية. بينما حليفه نفتالي بينيت زعيم (البيت اليهودي) كل ما يهمه هو أن يظهر إخلاصه للمشروع الاستيطاني، كيف لا وهو يتقدم في استطلاعات الرأي على حساب "الليكود". وحسب استطلاع القناة الثانية للتليفزيون الإسرائيلي الذي أجري مؤخراً فإن ائتلاف نتنياهو الحالي لن يتجاوز الستين مقعداً (50% من أعضاء البرلمان) أي أنه سيفقد الأغلبية البرلمانية، بينما في استطلاع الإذاعة الإسرائيلية العامة سيحافظ على أغلبية 67 مقعداً، وفي كلا الاستطلاعين تقدم (البيت اليهودي) من 8 إلى 11 مقعداً، ومن 8 إلى 13 مقعداً.
وهو يقلق كثيراً من احتمال أن تقوم الإدارة الأميركية الجديدة بالتدخل الفاعل في ملف الصراع ، فأي جهد أميركي جدي سيقود إلى مربع المواقف الأميركية التقليدية حتى لو جارت الولايات المتحدة على الفلسطينيين، فالولايات المتحدة سواء دعمت حلاً ثنائياً أو في إطار إقليمي أو دولي ستكون مبادرة السلام العربية هي الأساس والمرجعية لأي حل أي صيغة حل الدولتين على حدود العام 1967. ويقلق من إمكانية أن يتخلى حلفاؤه عنه عندما يضطر لإبداء مرونة معينة لتجاوز العواصف التي من الممكن أن تعصف بإسرائيل في أي ظرف يطرح فيه ملف الصراع على الطاولة.
وهو يقلق كذلك من إمكانية تقديم لائحة اتهام ضده على الرغم من عدم رغبته في تقديم استقالته حتى بعد حصول هذا السيناريو الواقعي لأن القانون الإسرائيلي لا يلزمه بذلك، على خلاف ما جرت عليه العادة في حالات سابقة. وهو في هذا السياق يحصل على دعم "الليكود" الأكيد. ولكن المعادلة اختلفت بعد خروج موشيه يعلون وزير الأمن السابق من " الليكود" واعتزامه تشكيل حزب خاص به، وفي ظل احتمال أن يلجأ بينيت للضغط عليه لأسباب حزبية انتهازية، وربما مطالبته بالاستقالة فور تقديم لائحة اتهام بحقه.
في ظل هذا الوضع المزعج الذي يجد نتنياهو نفسه فيه من الصعب رؤية أي خطوة سياسية جدية يقدم عليها سواء صدق التحليل الذي يقول أنه يرغب ولكنه لا يقدر ويخشى سقوط ائتلافه الحاكم بل وخروجه من " الليكود" بعدد قليل من المقاعد، أو التحليل الذي يقول أنه لا يرغب وأنه يجيد المناورة للتخلص من الضغوط في كل مرة. ولكن في هذه الحالة ستكون المناورة أصعب في ظل إدارة ترامب الذي سيطلب ثمناً لكل موقف لصالح إسرائيل.