مَن يزورُ غزةَ زيارة سريعة للمرة الأولى، لا يشكُّ لحظةً أن في غزةَ آبارَ غازٍ وبترول، ومناجمَ فحم وحديد، وأنها بلدٌ صناعيٌ وزراعيٌ مزدهر، وأنَّ شوارعها المملوءة بالسيارات الحديثة، وأنَّ النائمين على هواتفهم المحمولة، يستعجلون الخُطَى، مؤشرٌ على أنّهم، يسارعون الوقت ليظفروا بآخر نشرات البورصات التجارية، وشركات التكنولوجيا. مَن يشاهد العدد الكبير من سيارات الدفع الرباعي، لا يُخامره الشك، بأن غزة جماهيرية عُظمى، ليست مساحتها الجغرافية ثلاثمائة وستين كيلومتراً مربعاً فقط، بل ثلاثة ملايين، فسائقو سيارات (الجيب) ينوون الصعود إلى غابات السفاري الواسعة في غزة!
مَن يَقومُ بإحصاء عدد محلات بيع المكسرات، والآيس كريم، وعربات الترمس، وكارات البازيلاء الخضراء، واللوز الأخضر، والمطاعم بكل أنواعها، التايلندية، والمراكشية، والمصرية، واللبنانية، يظنّ بأن في غزة مسرحياتٍ، وأنشطةً فنية موسيقية، تقدم عروضاً صباحية ومسائية، عقب يوم العمل (الشاق)!
غير أن مَن يقضي فيها عدة أيامٍ يكتشف الحقيقة، وهي أن راكبي السيارات الحديثة يُطاردون بعضهم في مساحة لا تتجاوز في المتوسط خمسة كيلومترات، وأن عدد سيارات الدفع الرباعي الحديثة الضخمة، ليس سوى محاولةٍ من الغزيين للخروج من ضائقة الحصار، فهم حين يركبون هذه السيارات يشعرون بأنهم سافروا.
إنَّ تمردهم على واقعهم الأليم، يدفعهم إلى التنفيس عن أنفسهم بالأكل، فيلجؤون إلى محلات الآيس كريم، حتى في عز الشتاء، لكي ينفِّسوا بحركات الألسنة عن الضائقة التي يتعرضون لها. إن انشغالَهم بالأكل والطعام، تنفيسٌ أيضا عن الألم، فتزدهر في جماهيرية غزة المستشفيات، ومختبرات التحاليل الطبية، وحركة شراء الدواء، فعددُ صيدليات غزة يكفي لدولةٍ كبيرة.
أما عن محلات العطور وبيع مستحضرات التجميل، وبوتيكات الألبسة الفاخرة، وصالونات تصفيف الشعر، فهي تشير أيضا إلى أنهم يودون أن يعيشوا الحياةَ التي يرونها على شاشاتهم، فهم يخرجون من حصارهم المادي والعملي بالبحث عن بدائل نفسية تُشعِرهم بالراحة.
غير أنَّ هذا النضال الغزي المشروع، يقابله ممارساتٌ تتنافى مع أبسط مبادئ الأخلاق، بخاصة بين الشباب، فيشعرون أنهم أكبر من مدينتهم، وأن مسقط رأسهم لا يستحق الاحترام والتقدير، فمَن يتزينْ بالعطور، ويتجمل بالثياب الفاخرة، يرتكبْ أكبر الجرائم في حقِّ الشارع العام، حين يبصق في كل مكان، ويلقي مخلفاته وسط الشوارع والحدائق، ويتحدى الذوق العام.
وحين يحتفل كثيرون بالزواج، يستأجرون قاصفات الآذان، الميكروفونات الممنوعة دوليا، يضعونها فوق سيارات نقل الأمتعة، يجوبون بها الشوارع، وهي مملوءة بأجساد الأطفال، يؤدون رقصَات الإزعاج، يحولون الفرح إلى انتقامٍ من السكان، والسائرين، فيُغلقون الشوارع، ويُلقونَ على السائرين المفرقعات المرعبة!
كثيرون ممَن يركبونَ السياراتِ الفاخرة، لا يحترمون أبسط قواعد المرور، فيعتدون على الممرات المخصصة للمشاة، ولا يلتزمون بالسرعة المحددة، ولا يحترمون أبسط قواعد السلوك الأخلاقي العام.
هل يُعقلُ أن كلَّ فردٍ واحدٍ في غزة يحتاجُ إلى ثلاثة مرافقين؛
يحتاجُ إلى عاملِ نظافةٍ، يسير وراءه ليلتقط مخلفاته، وشرطيٍ، يتابعه ليحفظ القانون، وإلى مرشدٍ، يوجهه؟!!