منذ عدة أيام، لم تهدأ دمشق بسبب هجمات جديدة على المداخل الشمالية الشرقية لهذه العاصمة التي تتمتع بتحصينات عسكرية قوية؛ لمنع أي هجوم أو سيطرة للمعارضة عليها، بحكم موقعها الإستراتيجي ومكانتها السياسية والعسكرية والرمزية.
الهجوم الذي شنته المعارضة تزامن مع هجوم آخر في مناطق قريبة من مدينة حماة، ويأتي في مرحلة مهمة جداً وحساسة، حيث إنه يعقب فشل اجتماع «أستانا 3»، ويتزامن مع جولة مفاوضات «جنيف 5»، التي انطلقت، أمس.
في «أستانا 3» لم تحضر المعارضة السورية بسبب ما اعتبرته خرقاً مستمراً من جانب القوات الحكومية السورية لوقف إطلاق النار الذي جرى الاتفاق عليه بين كل من روسيا وتركيا أواخر العام الماضي، فضلاً عن موقفها من موسكو التي تقول: إن الأخيرة أرخت الحبل للنظام السوري في تواصل النزاع العسكري ودعمته في مناطق كثيرة.
عدم حضور المعارضة في أستانا لا يتعلق فقط بهذين الموقفين، إذ هناك قوى دولية مؤثرة في النزاع السوري تستخدم المعارضة من أجل تحقيق مكاسب في السياسة، وكذلك الحال بالنسبة للمعارضة نفسها التي ترى في عدم حضورها رسالة لروسيا بأنها غير راضية عن مسار اجتماع أستانا برمته.
ثم إن المسار المذكور لا تراه المعارضة مناسباً لتأكيد مواقفها من العملية السياسية في سورية، ذلك أن حضورها مفاوضات «جنيف 5» يفسر على أنها ترى فيها المدخل المناسب للحديث عن تسوية الأزمة السورية، على اعتبار أن من يقف خلفها ويدعمها هو الأمم المتحدة.
كل ذلك يعطي مؤشرات على أن المعارضة حينما هاجمت مناطق قريبة من دمشق، إنما فعلت ذلك من أجل تأكيد موقعها التفاوضي، خصوصاً وأن الحديث يجري منذ فترة عن أن القوات الحكومية السورية ماضية في استعادة السيطرة على مناطق من المعارضة المعتدلة بنظام التدرج الجغرافي.
كان من الأولى أن يؤجل المبعوث الدولي الخاص إلى سورية ستيفان دي مستورا، هذه الجولة التي يبدو أنها لن تحقق نتائج إيجابية مرجوة، قياساً بما كان يجري في السابق، خصوصاً وأن الرجل حرص في كل مرة على أن يسبق انطلاق أي جولة تفاوضية هدوءاً بنسبة معقولة في سورية، لا يعكر مزاج التفاوض.
دي مستورا الذي لم يحضر افتتاح مفاوضات «جنيف 5»، علل عدم المشاركة في اليوم الأول بأنه في زيارة لعواصم دولية وعربية، من بينها دمشق وموسكو وأنقرة، من أجل الاطمئنان إلى مشاركة فرقاء النزاع السوري في هذه المفاوضات.
على أن النظام السوري الذي يشارك وفد منه برئاسة بشار الجعفري في مفاوضات جنيف الحالية، لم يرحب بالمبعوث دي مستورا على أرضه، بسبب ما بثته وكالات صحافية من أقوال للرجل رأى فيها أنه لا يمكن عمل دستور جديد لسورية في حضرة النظام الحالي.
الأمور في سورية باتت تزيد تعقيداً، إذ من مجريات الواقع يبدو أن القوات الحكومية السورية صحيح تمكنت من إلحاق الضرر بالمعارضة المعتدلة في عدد من المناطق السورية، إلا أن الأخيرة ما تزال حاضرة بقوة في المشهد السوري.
يفترض بالجولة الجديدة من مفاوضات جنيف أن تركز على أربعة مسارات جرى التأكيد عليها في المفاوضات التي قبلها، هي: صياغة الدستور السوري الجديد، وإجراء الانتخابات، وإطلاق المرحلة الانتقالية، ومحاربة الإرهاب.
الحديث في هذه الموضوعات المهمة والحساسة هو أمر صعب في ظل الاقتتال الحاد الذي تشهده مناطق سورية متنوعة، كما أنه صعب في ظل استفحال الخلافات بين اللاعبين الدوليين مثل روسيا والولايات المتحدة الأميركية وتركيا وإيران.
المشكلة في الموضوع أن مسار النزاع السوري عموماً على الرغم من أنه شهد تطورات وسعت الآمال بصدد التسوية، إلا أن الكثير من القضايا لم تحل، لا موضوع وقف إطلاق النار حل بصرف النظر عن وجود اتفاق وراعين له، ولا حتى موضوع المسار السياسي وما يدخل في تفاصيله من دستور وانتخابات وهيئة انتقالية للحكم.
كافة الأطراف التي تؤكد أن الحل في سورية سياسي وليس عسكرياً، مقتنعة في صميم قلبها وعقيدتها أن الحل عسكري، وأن السياسة تحصد في النهاية المنجزات العسكرية، بدليل أن رسائل الحروب التي تحدث على نغمة المفاوضات السياسية، هدفها شغل موقع متقدم في سلم الفعل السياسي في النظام السوري الجديد.
مفاوضات «جنيف 5» لن تجني من الشوك العنب، إذ عدا رسائل فرقاء النزاع على المستوى السوري، هناك أيضاً رسائل كبيرة وثقيلة تتبادلها القوى الدولية المنخرطة في النزاع السوري، مثل الملف الكردي وموضوع محاربة التنظيمات الإرهابية وشكل النظام السياسي ومستقبل الرئيس الأسد.
الموضوع لا يزال بين شدّ وجذب بين هذه القوى، وهو ينعكس بقوة على الوضع الميداني السوري، إذ لم تتفق الولايات المتحدة وروسيا بعد على تصنيف ومحاربة التنظيمات الإرهابية، وفي حين تركز واشنطن على مدينة الرقة، تصر أنقرة على ضرورة التعاون من أجل تفادي أي اشتباكات عسكرية على خلفية الوجود الكردي في الشمال السوري.
معركة جوبر وحي العباسيين المفاجئة للقوات الحكومية السورية، ترى فيها المعارضة رسائل مهمة في سبيل تمكينها من موضوعين: الأول أنها قادرة على الصمود في وجه القوات الحكومية السورية وحلفائها الدوليين، وقادرة على الهجوم وشن ضربات مؤلمة، والثاني أنها قادرة على تعطيل المسار السياسي إذا لم تكن حاضرة فيه بقوة ويشمل مواقفها من التسوية.
وفي حقيقة الأمر، يمكن القول: إن المعارضة السورية قد لا تتمكن من تحقيق اختراقات عسكرية نوعية سواء في محيط دمشق أو في شمال حماة، لكن رسائلها هذه بمثابة «ضربة على الرأس» بالنسبة للنظام السوري، خصوصاً في محيط دمشق.
على أن ما يجري في سورية يؤكد أن الهدف الرئيس يتصل باستنزاف وإنهاك هذا البلد، وتجريده من كل قواه وتحطيمه تماماً، ومن ثم تدخل القوى الإقليمية والدولية لإعادة إعماره وتحميله فاتورة عالية من المصاريف، هو غير قادر على سدادها لسنوات طويلة.
حسب الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، ونقلاً عن الاتحاد الأوروبي، فإن تكلفة إعادة إعمار سورية تصل إلى 900 مليار دولار، ومع الأسف الشديد يبدو أن هذه الفاتورة ستزيد في ضوء دخول النزاع السوري عامه السابع، طبعاً عدا فاتورة القتلى والمنكوبين التي طالت كل بيت سوري.