يقدّم السياسي الفلسطيني مروان كنفاني شهادته على مرحلة النضال السياسي التي خاضها في المجال الديبلوماسي وفي الإدارة الفلسطينية إلى جانب الرئيس ياسر عرفات، وفي كتابه «للفلسطينيين فقط... إمكانية النجاح وإدمان الفشل» وقائع تكوين السلطة الوطنية في إطار منظمة التحرير وبانفتاح «فتح» على فصائل عدة بينها حركة «حماس».
ويضع كنفاني أمام القارئ صورة عن مرحلة أوسلو وما بعدها وانتقال السلطة إلى الداخل الفلسطيني، وما أحدث ذلك من صدمة العبور من الثورة إلى الدولة، مع التركيز على التناقض الفكري والصراع الميداني بين «فتح» و «حماس» الذي لا يزال يلقي بتعقيداته على العمل الوطني الفلسطيني. يركّز كنفاني على المرحلة الحالية المعقّدة في المنطقة العربية والاستقطاب الأميركي والروسي للحركات السياسية والعسكرية بتحالفاتها وحروبها.
ويرى أن تراجع الاهتمام الإقليمي والدولي بالقضية الفلسطينية يفرض التركيز على رابطة المواطنة، وأن تعيد الفصائل الرئيسية النظر جذرياً في فكرها وسلوكها اللذين ينتميان إلى مرحلة منقضية ولا يخدمان مستقبل فلسطين وشعبها.
وفي حديث الى «الحياة» اللندنية، قال مروان كنفاني انه منذ عام 2007 وحتى الوقت الحالي جرت محاولات بهدف الوصول الى مصالحة بين حركتي «فتح» و»حماس».
ونجح الفلسطينيون خلال السنوات العشر الماضية في تحقيق حكومتين توافقيتين، الاولى انتهت بأنها قسمت الشعب رسمياً بين حكومة رام الله وحكومة غزة. والحكومة التوافقية الثانية ما زالت قائمة، «ولا احتاج الى شرح مدى فشلها».
واضاف: نحتاج الى برنامج مشترك ليس بالضرورة ان يكون برنامج «فتح» او برنامج «حماس». نحتاج الى الى برنامج يجعل الجميع يعمل من اجل هدف واحد في مرحلة معينة. لا يمكن ان ينتصر شعب وهو منقسم ونحن للأسف منقسمون ليس الى قسمين ولكن الى اكثر من ذلك.
نص المقابلة:
> «منظمة التحرير الفلسطينية»، ومن بعدها ومعها «دولة فلسطين»، تشكلان كياناً سياسياً معترفاً به إلى حد بعيد عربياً ودولياً. وهما الآن محل تنافس وخلاف بين «فتح» وسائر الفصائل، خصوصاً «حماس». هل يمكن لفصيل واحد أن يمثل الشعب الفلسطيني؟ وكيف يمكن، في رأيك، جمع المتناقضين حول نقطة لقاء مركزية؟ وما هي هذه النقطة بالتحديد، الآن وفي المستقبل؟
- هذا السؤال يعكس السبب الذي دفعني لكتابة هذا الكتاب. نحن لسنا تجربة فريدة في العالم، وقد مرت ظروف مماثلة على شعوب كثيرة إبان عملها من أجل الاستقلال. هناك محاولات أجريت منذ عام 2007 وحتى الوقت الحالي بهدف الوصول إلى مصالحة بين حركتي «فتح» و «حماس»، ولقد نجح الفلسطينيون خلال السنوات العشر الماضية، في تحقيق حكومتين توافقيتين، الأولى انتهت بأنها قسمت الشعب رسمياً بين حكومة رام الله وحكومة غزة. هذا العمل الذي لم تستطع بريطانيا ولا إسرائيل خلال نحو قرن من الزمان تحقيقه. تم تقسيم الشعب والأرض. الحكومة التوافقية الثانية ما زالت قائمة، ولا أحتاج إلى شرح مدى فشلها. العالم وصل عبر تجارب عدة إلى صيغة تقول إن البرامج السياسية المشتركة تلجأ إليها أطراف مختلفة في أحزاب أو شعب دولة معينة. في فلسطين، نحتاج إلى برنامج مشترك ليس بالضرورة أن يكون برنامج «فتح» أو برنامج «حماس». نحتاج إلى برنامج يجعل الجميع يعمل من أجل هدف واحد في مرحلة معينة. هذا حصل في الجزائر وفيتنام وغيرهما فوصلت شعوب تلك الدول إلى النصر. لا يمكن أن ينتصر شعب وهو منقسم ونحن للأسف منقسمون، ليس إلى قسمين ولكن إلى أكثر من ذلك.
> كتبتَ في مقدمة كتابك «إن معركتنا التي يجب أن نخوضها اليوم هي معركة الحفاظ على مَنْ تبقّى من الشعب الفلسطيني على ما تبقى لهم من أرض، وتمتين وحدة الشعب الفلسطيني على تلك الأرض الموحدة». كيف يمكن أن نترجم هذا الكلام على أوضاع فلسطينيي 1948 وفلسطينيي غزة وفلسطينيي الضفة الغربية؟ ماذا يستطيع هؤلاء لأنفسهم، وماذا في إمكان فلسطينيي الشتات أن يقدمّوا لهم؟
- الشعب الفلسطيني هو واحد متحد في مناطق مختلفة يحاول البقاء من طريق العمل المتاح له حيثما وجد. عرب 48 أثبتوا قوة تمسكهم بالأرض وقوة عملهم الجماعي. فلسطينيو الشتات هم الذين بدأوا حركة تحقيق الشخصية والكيانية السياسية الفلسطينية. وبدء الحديث عن إقامة دولة. لقد تحقق جزء من أهدافهم وهو الجزء المتعلق بالأراضي التي احتلت عام 1967. أما عرب الضفة وغزة، فهم القصة وهم الأمل. وردَ في كتابي أن إسرائيل لم تنتصر علينا بقوتها المسلحة، وإنما حين طردَت شعبَنا من أرضه، وأن العرب في الضفة وغزة وفي أراضي 48 هم الذين هزموا إسرائيل بتمسكهم بأرضهم والبقاء فيها. مهمة الفلسطينيين هي الحفاظ على ما لديهم من أرض وحماية مَن يعيش على تلك الأرض وتيسير حياتهم وتأمين الحرية لهم وإشراكهم في جهود تحويل ذلك الوجود إلى حقيقة على الأرض. نحن الشعب الوحيد في العالم الذي فقدَ كلَّ أرضه وتم محو علَمه، لكنه استطاع أن يعود ليثبت للعالم أنه موجود وقادر على الاستمرار. العالم اليوم يعترف بالدولة الفلسطينية، بما في ذلك إسرائيل وأميركا. لكننا مختلفون معهم على حدود الدولة وعلى سيادة الدولة.
> هناك أربعة آفاق سياسية وثقافية وحضارية للإنسان الفلسطيني: الوطن، العروبة، الإسلام، العولمة؟ كيف يمكن استمرار حياة الوطنية الفلسطينية مع ضغوط الآفاق الثلاثة؟
- لقد سقطت اليوم الروابط التي حكمت شعوب المنطقة في القرون الماضية وهي روابط العروبة وروابط الإسلام وروابط الانتماء الوطني. نرى اليوم أن الذين يقتلون المسلمين هم من المسلمين وأن الذين يعبثون بالمواطنين هم من الوطن نفسه وأن الذين يطردون العرب هم من العرب. جاء الوقت الذي علينا أن نلجأ فيه إلى رابطة جديدة، هي رابطة المواطنة التي تحمي الأديان وتحترم الاختلاف العرقي، وهي التي تعترف فقط بالمواطن ولا تذكر في بطاقته الشخصية لا الدين ولا غيره. النظام الأمثل والرابط الأفضل هو المساواة بين المواطنين بغض النظر عن دينهم وانتمائهم العرقي. هذا ثابت في الدول الأوروبية وفي أميركا، وإلا لماذا يهاجر المسلمون والعرب إلى هذه البلاد مجابهين الموتَ في البحر؟ هم يفعلون ذلك حتى ينعموا بحرية العمل وحرية التديّن التي افتقدوها في بلادهم.
> أنت مروان كنفاني، لك تجربتك كفلسطيني، مع تجربة شخصية مؤثرة هي كونك شقيقاً للشهيد غسان وبطلاً شعبياً في مصر من خلال النادي الأهلي. كيف تؤثر التجربة الشخصية هذه في ممارستك الوطنية الفلسطينية؟
- أن أكون قد ولدت أخاً لغسان كنفاني، فهذا شرف وفخر. كنتُ أقرب إخوتي إليه، فهو كان يكبرني بسنتين فقط. تعلمتُ منه الكثير. غسان ليس إرثاً لعائلة كنفاني ولا لمدينة عكا ولا لفلسطين، لكنه أيضاً إرث للحرية والتحرر في العالم. أما كرة القدم فأجرؤ أن أقول إنها كانت حنونة عليّ وأن جزءاً من حياتي مدين لهذه اللعبة. عندما هاجرنا من فلسطين ثم من لبنان، إلى دمشق، كانت ظروفنا الحياتية في غاية الصعوبة. أقمنا في حي في دمشق اسمه بستان الحجر كان معظم سكانه من الفلسطينيين. كانت هناك ساحة قرب المدرسة الابتدائية في ذلك الحي، فقمنا بتسوية أرضها حتى تصبح ملعباً لكرة القدم. من ذلك الملعب برز ثلاثة لاعبين فلسطينيين، ليس على المستوى الفلسطيني ولا السوري فحسب، ولكن على مستوى العالم العربي كله، منهم زميلي وصديق عمري فؤاد أبوغيدة وزميلي إبراهيم المغربي. لعبتُ في الشارع ومن ثم في المدرسة ومن ثم في منتخب المدارس ثم المنتخب السوري. وعندما أنهيتُ دراستي الثانوية كان المفروض في عائلتنا حتى نستمر في الحياة أن أذهب إلى الخليج للعمل كمدرس في معظم الحالات كما فعلت أختي الكبيرة وكما فعل غسان. لم أكن متحمساً لتلك المهنة ولا راغباً في التوقف عن التعليم، وجاء عرض النادي الأهلي المصري ليعطيني الفرصة لأن أكمل دراستي من دون أن أحتاج للعمل. انتقلت بعد إنهاء السنة الأولى في كلية الحقوق في جامعة دمشق إلى كلية الحقوق في جامعة القاهرة، وعندما تخرجت، وحيث إنني كنت أحمل وثيقة سفر فلسطينية، لم يكن أمامي مجال للعمل الديبلوماسي سوى في جامعة الدول العربية مع أنني كنت عضواً في الاتحاد العام لطلاب فلسطين. ساعدني «الأهلي» في دخول مسابقة الانتساب إلى الجامعة العربية وحصلت على الوظيفة الأولى. لذلك أنظر إلى محبة الناس، ليس في مصر فقط، ولكن في معظم البلاد العربية، على أنها منحة من الله جعلتني أحقق ما أردت من حياتي.
ملاحظة: هذه المقابلة مع مروان كنفاني، في مثابة تمهيد لمقاطع ثلاثة تنشرها «الحياة» من كتابه الجديد «للفلسطينيين فقط... إمكانية النجاح وإدمان الفشل» (يصدر في منشورات «المجمع الثقافي المصري» - القاهرة).