مرت القصيدةُ العربية بالعديد من التحولات منذ عهد امرئ القيس إلى يومنا هذا حتى بلغنا قصيدة النثر , فهي تطور طبيعي لا قسري للشعر, تكمل الدورة عبر الدهور وتحقق المقومات الأساسية ,عاطفةً وعقلاً , ولعل الشعر في جوهره ليس إلا تعبيراً موفّقاً و منمقاً عن صدى الحياة فرحها ,ترحها ,عفويتها , تصنعها , سكونها وجموحها , وما الشعر إلا الشعور, وما الإبداع إلا التجديد لا التقليد, ومن الطبيعي أن يتم إبداع شكل حديث للقصيدة العربية متمثلاً بقصيدة النثر حتى يأتي يومٌ يبتدع فيه شكلٌ جديدٌ للقصيدة .
وقصيدة النثر التي تسلط الضوء على المضمون لا الشكل, موسومةٌ بإيقاعها الخاص و موسيقاها الداخلية , مرتكزةٌ على الألفاظ وتتابعها , وعلى الصورِ وتكاملها , وإذا اعتبرنا أن الأصل في الشعرِ الشعور والتأثر والإتيان بما هو جديد وجميل وهنا ينبغي الإشارة أن قصيدة النثر لا تخضع لناموس الوزن والقافية .
يقول أنسي الحاج أحد أهم شعراء قصيدة النثر : (لتكون قصيدة النثر قصيدة حقاً لا قطعة نثرية أو محملة بالشعر , شروط ثلاثة : الإيجاز والتوهج والمجانية ) .
وقد قالت عنها السيدة سوزان برنار التي تعتبر من أفضل من كتب وتوسع في هذا الجنس الأدبي البراق في أطروحتها الشهيرة قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا :
(قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية ,موحدة ,مضغوطة ,كقطعةٍ من البلور ...خلقٌ حر , ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كل تحديد , هي شيء مضطرب إيحاءاته لانهائية).
فالشقيقة الشقيّة الصغرى في العائلة الشعرية ثارت على دستور العائلة و عاداتها (دستور الفراهيدي) من عروض و أوزان , ورفضت خوض غمار البحور الشعرية وهي تماشي الحداثة كما أنها ليست إلا خلق حالة من النظام في جوٍ من الفوضى – فسيفسائية الخلق- وقابليتها للفن الإيحائي أكثر من سابقاتها.
فهي كسرب فراشات ينتجن العسل بلا خلية تؤويهن, وكأنها وليدة التزاوج بين النثر والشعر وارثةُ من كليهما أفضل صفاتهما ,مسقطة ًما يكبل الإبداع والتجديد وماسحةً كل أشكال التبرج التي كان يطلى بها وجه القصائد القبيحة ولاسيّما الفارغة من المعنى والإبداع , المحشوة بالأوزان والتفعيلات فقط , فاضمحلت الموسيقى الخارجية التي تغطي عيوب ونواقص القصيدة , بيد أنها عملت على بثِّ روح الموسيقى المتموجة والهادئة بين السطور, ونجحت في فرض مواجهةٍ حتمية بين الموهبة المحضة والكاتب , واضعةً الشاعر في مواجهة النص , ومميطةً اللثام عن حسن الموهبة , وربما لهذا تهيّب الكثير من ركوب البحر الشعري الحديث , بحر قصيدة النثر الجاف من التفعيلات.
وفي خضم هذا الفهم الخاطئ لقصيدة النثر والاختلاط الذي يسهل تبريره لدى البعض يبرز سؤالٌ مهمٌ جداً : ألم تأتِ قصيدة النثر لتحرر الشعر من عبودية الوزن والقافية ؟ وفي المقابل أليست اليوم ترسف في قيود الغموض الخانق والتصحر الموسيقي والرمز المستورد ؟!
فمن المثير للاستهجان تقييد كتّابنا لقصيدة النثر بهذا الغموض اللامقبول واللامعقول , ومن ادّعى أن ضياع الفكرة أو حتى تعمّد دفنها لمئات الأميال من دعائم قصيدة النثر فهو بحاجة لمستكشفين متخصصين للتنقيب عن القصد والمعنى, فهي تبدو للقارئ متوسط الثقافة كأنها مقتنياتٌ ثمينة لا يوفق بابتياعها إلا الأثرياء (فلا يفهمها سوى المثقف العالي الثقافة ) وقد لا ينجح في فهمها أيضاً فهو سيتعب من فك طلاسم السطور وهو يلعن مقولة (المعنى في قلب الشاعر ).
فالشاعر هو من يستأنس نزعته الشعرية المستأسدة ويجعلها تلبي ما يدور في ذهن وقلب القارئ بما يلمسه ويعانيه في حياته اليومية, فهو ضميره المتكلم , حينها تلقى السطور وقعاً خاصاً لديه دون أن تقيد المتلقي وتشعره بالعجز والنفور حيال هذا الجنس الأدبي , فهذا الغموض المستبد - الذي أصبح من ضرورات قصيدة النثر بسبب الفهم الناقص لدى كل شاعرٍ- يكلس فكر القارئ ولا يعبر إلا عن نرجسيةٍ موغلة .
فقصيدة النثر كما نعتتها سوزان برنار (هي كما يسري تيار كهربائي غير مرئي عبر سلك غليظ ليغرقنا فجأة بالنور ) ولكن للأسف لم يبلغ وهجها إلا قلةٌ قليلة ممن تحرروا من سلطان غموضٍ مكفنٍ لها , فقصيدتنا فيها الغموض المستساغ ,المثير للشهية الاستكشافية , فاليسير منه ينعش العقل والذاكرة , فهو يزيد النص رونقاً وتمنّعاً ,وقد كان السبّاق لهذا شاعرنا الكبير أبا تمام الطائي عندما سئل :
لماذا تقول مالا يفهم ؟ فأجاب ولماذا لا تفهم ما يقال ؟!
نستشف من رسالة أبي تمام للمتلقي أنه يتحتم عليه ألا يكون اتكالياً , بل يحثه على بذل بعض الجهد والطاقة الذهنية والقفز بعض القفزات الفكرية مستشعراً بالغموض الجذاب , المقبول والمعقول , منشطاً لذاكرته ,ومحفزاً لمخيلته , ليصل لثمرة القصيدة المشتهاة .
ويلجأ بعض الشعراء عن عمدٍ إلى تجفيف القصيدة من موسيقاها وكأنه من مقوماتها التي لايمكن أن تقوم إلا بها وأي جنوح - في نظرهم - إلى إضفاء بعض الموسيقى كتكرار ذات القافية في سطرين متتابعين , أو تتكرر كلمات لها نفس الوزن يعتبر إخلالاً ببناء القصيدة النثرية ,ولأن الغاية المرجوة هي إيصال الفكرة وتأدية المعنى فلاغضاضة إن طال السطر أم قصر وتكررت ذات القافية أم لم تتكرر, دون تعمد ذلك من الشاعر .
ومن المؤلم ربما ألا نعتدّ بموروثنا الثقافي ورموزه على امتداد التاريخ الذي يزخر بقصص العشق من قيس بن الملوح وليلى و جميل بثينة وعروة بن حزام وعفراء التي تفطر القلوب والصخور.
فكيف يعرف أطفالنا قصة روميو وجوليت ويجهلون قصص أجدادهم العذريين ؟!
أليس عمر بن أبي ربيعة أكثر جاذبية من كازانوفا ؟!
أليست شخصية خالد بن الوليد العسكرية أكثر حنكةً من نابليون ؟ّ!
إذاً فلم نتجه لشراء الماء مادمنا نمتلك النبع ؟!
فالكاتب اللماح يستفيد من محاسن الحضارات ويتلافى هِناتهم آخذاً ما يمكن أخذه مما يتناسب مع هويتنا وشخصيتنا العربية المستقلة لا متطفلاً على موروثهم و رموزهم , وبهذا تغدو قصيدة النثر عربية الهوى والمفردات والتراكيب تكمل مهمة القصيدة الأولى التي لم تكن إغريقيةً ولا فارسيةً أو روميةً.
فالقارئ العربي حينما يطالع قصيدةً قد امتشق فيها الشاعر رموزنا و أبطالنا سيتولد لديه نوعٌ من اللذة و الكبرياء الذي يعمق انتسابه للعربية .
( وقد تعمدت هنا عدم ذكر اسم أي قصيدة أو شاعر لأسلط الضوء على المشكلة ولكي أتحاشى التشخيص فالشبكة العنكبوتية تزخر بالقصائد الكفيفة والموغلة بالألغاز والخرافة والأساطير التي تسبب تلبكاً لغوياً لا يستساغ فهمه ولا استقصاء معناه ولا حتى تحسس كنهه ) وإذا تمكن كتابنا من عدم التورط بما سبق ذكره
لعل قصيدة النثر حينها تخلف انطباعاً من الدهشة وإضاءاتٍ بفعل التشابيه والصور المبتكرة لا المكرورة , يكتنفها الغموض الشفاف والرمز العربي ,وبهذا تحمل مشعل الشعر لجنسٍ آخر ننتظر انبلاجه.