أصدرت حماس وثيقة سياسية جديدة، تضمنت 11 فصلاً و41 بنداً تفصيلياً، عرضت فيها المبادئ والمنطلقات التي تستند إليها الحركة في تكوين رؤيتها، وبناء خطابها، وتحديد سلوكها وأدائها السياسي.
أول ما يتبادر للذهن سؤالان، الأول: ما مغزى نشر الوثيقة في هذا التوقيت بالذات؟ والثاني: ما الجديد، والمختلف الذي تضمنته الوثيقة؟
بالنسبة للتوقيت؛ لا يشترط اقتران الإعلان عن أية وثيقة بالأحداث الجارية وقت إعلانها، فربما تكون أفكارها قد تشكلت وتبلورت خلال فترة سابقة، إلى أن نضجت وآن أوان إعلانها، وتصادف ذلك مع ما يجري من حولها من وقائع ومشاريع مطروحة، وبالتالي فإن تحليل مسألة التوقيت لا يغدو كونه اجتهادا.
مع ذلك، من الخطأ تجاهل الظرف السياسي الراهن، وإغفال ربطه بتوقيت الوثيقة.. خاصة في ظل تراجع شعبية الحركة، وإخفاقها في إدارة غزة، وتفاقم كل أزمات القطاع دفعة واحدة بعد أن تراكمت في العقد الماضي.. وأيضا في ظل المشاريع السياسية المطروحة، الهادفة لعزل غزة، والتفرغ لحل موضوع الضفة والقدس حسب الرؤية الإسرائيلية.
أما فيما يتعلق بالجديد، فإن الوثيقة لم تبين إذا كانت بديلا عن ميثاق حماس الذي أصدرته في تموز 1988، أم تطويرا له.. لكننا سنجد بعض الفروقات المهمة بينهما، وأبرزها إغفال طبيعة العلاقة التي تربط حماس بالإخوان المسلمين.. فبينما كان هذا الأمر واضحا في الميثاق القديم، لا نجد له أي أثر هنا، فهل هذا دليل على تطور في الخطاب السياسي الحمساوي، ونزوع أكثر نحو الوطنية الفلسطينية، أم تبرؤ ظاهري من الإخوان، خاصة بعد التهديدات الأميركية بإدراج الجماعة على قوائم المنظمات الإرهابية، وبعد تدهور علاقاتها مع معظم الدول العربية، وتراجع مشروعها، بعد التغيرات الدراماتيكية التي حصلت في مصر وتونس.
المسألة الأخرى نجد في ميثاق حماس الأول هيمنة المصطلحات الدينية؛ فمثلا، بدلا من الشعب الفلسطيني: «المجتمع المسلم»، المرأة الفلسطينية: «المرأة المسلمة»، المقاومة: «الجهاد»، الغرب: «الدول الصليبية»، الصراع العربي الصهيوني: «نزاع اليهود أرض المسلمين».. في الوثيقة الجديدة سنلمس بعض التغيير، مثلا سابقا عرفت نفسها بأنها «حركة إسلامية»، بينما هنا هي: «حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية».. في الميثاق القديم القضية الفلسطينية «قضية دينية، ويجب معالجتها على هذا الأساس»، في الوثيقة رفض لتديين الصراع، وإقرار بأنه صراع على الأرض، وليس ضد «أحفاد القردة والخنازير»، وفي تعريفه لفلسطين نجد «فلسطين أرض وقف إسلامي»، في الوثيقة الجديدة «هي أرض الشعب الفلسطيني ووطنه»، الهدف كان «منازلة الباطل وقهره ودحره»، ليصبح «تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني»..
أي تم استبدال التوصيفات الدينية بمصطلحات سياسية حديثة، كما أن الميثاق القديم يكاد لا يخلو بند فيه من آية قرآنية.. بينما الوثيقة الحالية لا تتضمن أية آية..
مسألة أخرى أثارتها الوثيقة، هي تعريف الفلسطينيين بأنهم «المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون في فلسطين حتى سنة 1947»، فهل هذا يشمل اليهود؟ هل هي تهيئة لتقبل فكرة التعايش! الميثاق الوطني للمنظمة أشار لهذه المسألة بوضوح، بأن «اليهود الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى بدء الغزو الصهيوني لها، يعتبرون فلسطينيين».
وثمة فرق كبير بين من كانوا يقيمون في فلسطين قبل بدء الغزو الصهيوني، وبين من يقيمون فيها قبل العام 1947..
ومن الملاحظات أيضا أن الوثيقة لم تربط بين المشروع الصهيوني والإمبريالية العالمية، فقد عرفت الكيان الإسرائيلي بأنه «أداة المشروع الصهيوني».. دون أية إشارة لعلاقته بالغرب الاستعماري ومشروعه الإمبريالي.. كما اعترفت الوثيقة بما يسمى «العداء للسامية»، وأكدت أنه «سبب أساسي في ظهور الحركة الصهيونية». وهذا غير صحيح؛ فالعداء للسامية فرية صهيونية (واستعمارية) تستخدمها إسرائيل لأغراضها الدعائية.. ومن الخطأ الوقوع في هذا الفخ..
الأمر الآخر أن حماس في الوثيقة لم تعترف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، واكتفت بالقول: «منظمة التحرير الفلسطينية إطار وطني للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يجب المحافظة عليه». فهي إما أنها تطرح نفسها بديلا عن المنظمة، أو تنازعها التمثيل، أو أنها تقبل بغياب التمثيل الفلسطيني برمته.. أي تكريس الانقسام.
نأتي للبند الأبرز في الوثيقة: «إن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة، ولا تعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، كما لا تعني التنازل عن أي من الحقوق الفلسطينية».
هذا البند يعني قبولا واضحا بدولة فلسطينية بنفس المواصفات التي تدعو إليها منظمة التحرير، ويعني ذلك بكلمات صريحة دون مواربة «حل الدولتين».. فعندما تدعو لدولة بحدود معينة لا يمكن تجاهل حدود الدولة المتاخمة، أو تجاهل وجودها.. هذه تصلح للشعارات، ولكنها غير مقبولة في العمل السياسي، وإذا كانت الدول العربية غير مطالبة بالاعتراف بإسرائيل، أو يمكنها تجاهل الاعتراف.. فذلك لأنها دول مستقلة، وقائمة منذ زمن.. بينما إقامة دولة فلسطينية، وطرد الاحتلال من أرضها، لا يمكن أن يتم دون اتفاق سياسي مع الاحتلال، ومع المجتمع الدولي (خاصة أميركا).. وبالتالي الحديث عن عدم الاعتراف هنا مجرد شعارات خطابية..
وهنا يجدر التأكيد على أنه لم يعلن أي فصيل فلسطيني (بما في ذلك فتح) اعترافه بإسرائيل، بل إن هذا الأمر غير مطلوب من الفصائل أساسا، وهذا دور المنظمة فقط..
بالمجمل، الوثيقة تعبر عن نضوج في الخطاب الحمساوي، وقبول بالديمقراطية والتعددية، وتغير في مفاهيم الصراع وأدواته، ومع ذلك، فإن كل التغييرات التي أدخلتها حماس لا تؤهلها لدخول المجتمع الدولي، بدلالة عدم اهتمام العواصم المختلفة بالوثيقة، بل وتجاهلها.. ولكنها في نفس الوقت تكسبها الكثير من المرونة في التعاطي مع مشاريع التسوية، ما يعني أن هناك ما يبرر الخشية من أن تكون البنود التي تتشدد في مسألة عدم الاعتراف، ورفض مشاريع التسوية وحدود فلسطين التاريخية... هي فقط لطمأنة جمهورها وأنصارها في حال تبنت مشروع «دويلة غزة»، وتبرير ذلك بأنها مجرد محطة مؤقتة.. وهذا وهم كبير، أو خدعة كبرى، إذ إن مشروع «دويلة غزة»، سيكون آخر مسمار في نعش المشروع الوطني الفلسطيني.
وثيقة مجانية
17 سبتمبر 2024