حول أزمة رواتب غزة

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

اعتاد رئيس الوزراء السابق سلام فياض عقد اجتماعات دورية مع عدد من الكتّاب والصحافيين، بهدف الحوار المتبادل، وحصل أكثر من مرة أن طرح عليه بعض الصحافيين أسئلة حول غزة: ما جدوى دفع فواتير غزة ورواتب موظفيها؟ وإلى متى؟؟ كان فياض يرفض بشدة طرح الموضوع من أساسه، ويؤكد أن غزة خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه.. وهذه شهادة يتوجب عليَّ ذكرها اليوم، في ظل الأزمة التي افتعلتها الحكومة ضد موظفي قطاع غزة.
السؤال المطروح: هل الموضوع متعلق بأزمة اقتصادية وترشيد نفقات، أم له أبعاد سياسية؟ قبل الإجابة عن السؤال، ينبغي ألا يغيب عن بالنا حقيقة أن غزة في مرحلة ما بعد النكبة مباشرة، مثّلت الهوية الوطنية الفلسطينية، وحمتها من خطر التفتت والإلغاء.. وحملت نواة المشروع الوطني التحرري، وحمته من مشاريع الإذابة والدمج.. وأنّ حركة "فتح" التي بدأت إرهاصاتها الفكرية والتنظيمية في الشتات؛ كانت غزة الميدان الفعلي لبدايات عملها الفدائي، وشكلت الحاضنة الشعبية التي قدمت أهم مؤسسي "فتح"، وأبرز بناة منظمة التحرير الفلسطينية.
وبعد نكسة حزيران بسنوات قليلة، أدركت إسرائيل حجم المأزق الذي ورّطت نفسها به باحتلالها غزة، وطالما تمنت أن تغرق في البحر، وظلت تنتظر الفرصة المناسبة للتخلص من كابوسها، فعرضت على مصر إدارتها، إلا أنها رفضت، ثم انسحبت من معظم أجزائها حسب اتفاق أوسلو، ثم انسحبت منها كلياً ضمن خطة الانسحاب أحادي الجانب (2005)، لتأتي "حماس" وتبتلع الطعم بالتفرد بالسيطرة عليها، وسلخها عن الضفة الغربية.
وبعد عشر سنوات من الانقسام، وفشل كل جهود المصالحة، ومع إصرار "حماس" على إدامة سيطرتها على القطاع، وتعطيل عمل الحكومة، ورفضها إجراء الانتخابات العامة، وحتى انتخابات المجالس المحلية، أعلنت "حماس" تشكيل "لجنة إدارة القطاع"، في خطوة تدل على توجهاتها لتكريس الانقسام، والتي قد تصل إلى حد إعلان الانفصال.. ثم جاء قرار الحكومة بخصم 30% من رواتب موظفي السلطة في غزة.. وهذا القرار قد يُفهم على أنه تماش مع توجهات "حماس" في حل سياسي سينتهي بسلخ القطاع وتسليمه لـ"حماس".. كأمر واقع، وشر لا بد منه.
حسب قناعتي؛ "حماس" تتحمل المسؤولية الكبرى في الانقسام؛ إلا أن القيادة في رام الله لم تبذل الجهود الكافية لإنهاء هذه المأساة.. واكتفت بدلاً من ذلك بإدارة الأزمة والتعايش معها. وقناعتي أيضاً أن البعض (وهم قلة) تعاملوا مع غزة كما لو أنها "حمولة زائدة".. وهنا فإن خطوة خصم جزء من الرواتب، تأتي في هذا السياق، والخطورة أن تتبعها خطوات أخرى للتنصل من غزة تدريجيا.. وفي الاجتماع الذي عقدته كوادر فتحاوية في القطاع نوه المجتمعون إلى أن قرار الخصم جعلهم يشعرون بأنها بداية انفصال حقيقي عن الوطن.
تبرر الحكومة قرارها "المجحف" بأن موظفي غزة لا يستحقون الحصول على "علاوات طبيعة العمل"، لأنهم لا يمارسون العمل كأقرانهم في الضفة.. علما أن عدم التحاقهم بالعمل هو تلبيةً منهم لقرار الحكومة، وتعبيراً منهم عن رفضهم الانقسام، وعدم اعترافهم به وما نشأ عنه، وتمسكهم بالشرعية التي تمثلها السلطة الوطنية.. وطالما أن تعطلهم عن الالتحاق بالعمل جاء تنفيذاً لقرار رسمي، فلماذا يعاقَبون على تمسكهم بالشرعية؟! ولماذا نجعلهم يدفعون ثمن الانقسام مرتين: من الحصار الإسرائيلي، ومن ذوي القربى؟!
وتقول الحكومة: إنها أُجبرت على اتخاذ هذه الخطوة، بسبب تمادي "حماس"، وسطوها على الضرائب، إضافة إلى انخفاض الدعم الخارجي.. فإذا كانت الأسباب انخفاض الدعم الخارجي، والأزمة المالية، فلماذا لا تشمل هذه الخطوة جميع الموظفين في جناحي الوطن؟ ولماذا تحميل موظفي غزة أثمان ممارسات "حماس"؟ علماً أن غالبيتهم جزء فاعل وأصيل من الحالة الفتحاوية! وعلماً أن القرار لم يؤثر سلباً على "حماس"، بل العكس جاءها بمثابة هدية، والكادر الفتحاوي هو الذي تأذى، وهو الذي اعترض.
وإذا طال الاقتطاع موظفين دون غيرهم؛ أي ليس وفقاً لاعتبارات مهنية، وإنما "جغرافية، ومناطقية"، فذلك يعني أن القرار لا يستند لأي مسوّغات قانونية، بل هو في هذه الحالة عبارة عن فضيحة سياسية؛ لأنه يفتقد للحساسية الوطنية في قراءة المشهد السياسي والحالة العامة، والمشاريع الخطيرة التي تُعد للقطاع.. ولم يحسن تقدير الموقف، والنتائج الكارثية التي تترتب على قرارات من هذا النوع، في مثل هذه اللحظة التاريخية، خاصة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي ستطول عشرات آلاف الأسر، وتمس مختلف جوانب الحياة في القطاع، رغم علم الحكومة بالحالة الصعبة، بل المأساوية التي تسود في القطاع على كل الصعد والمستويات.
على الحكومة أن تتراجع عن قرارها، وأن تعتذر عن خطئها، ويكفي استهتاراً بالموظفين، وفقراء هذا الشعب، ممن يدفعون ضريبة البقاء والصمود فوق أرضهم.