أثبت ما صدر وأعقب اجتماع مركزية "فتح"، يوم السبت الماضي، وما تلاه من تصريحات ومواقف، منها ما جاء على لسان الرئيس شخصياً، بأن قرارات الخصم من رواتب موظفي السلطة المقيمين بقطاع غزة، لم تكن قرارات اعتباطية، أو صادرة عن الحكومة دون علم الرئاسة، كما أنها، على ما يبدو، وهذا أهم ما في الأمر، لا تبدو قرارات مجتزأة، أي منقطعة عما قبلها وما بعدها، بل تجيء في سياق سلسلة إجراءات تهدف قيادة السلطة من ورائها وضع حد فوري ونهائي لحالة الانقسام القائمة سياسياً وجغرافياً بين جناحي دولة فلسطين، منذ عشرة أعوام، تراجعت القدرة الفلسطينية خلالها على التصدي لإجراءات الاحتلال بتمكين المستوطنين من القدس والضفة الغربية، كذلك من القوة التفاوضية الكفيلة بإجبار إسرائيل على إنهاء الاحتلال.
وخلال عشر سنوات مضت، حاربت السلطة على جبهتي: التفاوض مع إسرائيل، للسير بالعملية السياسية إلى شطآن الأمان بالتوصل للحل النهائي وإنهاء الاحتلال من جهة، والتفاوض مع "حماس" من أجل المصالحة وإنهاء الانقسام من جهة أخرى، لكن النتيجة، رغم طول صبر وجلد السلطة، كانت مخيبة تماماً للآمال، فلم يتم التوصل لاتفاق مع إسرائيل، ولم يتم وضع حد للاحتلال بإنهائه، رغم مرور خمسين عاماً عليه، ولم يتم إنهاء الانقسام، رغم التوصل مع "حماس" لأكثر من اتفاق للمصالحة، ورغم مرور عشر سنوات عليه.
يبدو أن صبر السلطة قد بدأ ينفذ، كذلك فإن السلطة تعرف جيداً، بأنه بعد انتخاب الرئيس الجمهوري الأميركي دونالد ترامب، هناك متغير دولي في السياسة الخارجية، والذي لا بد من أن تظهر تجلياته في المنطقة، ولعل التدخل الأميركي بقصف مطار الشعيرات السوري بصواريخ توماهوك الأسبوع الماضي، ثم التحول في اللغة الأميركية تجاه نظام بشار الأسد، الذي بات يصفه ترامب بالجزار، فيما بدأت واشنطن تصر على القول بضرورة خروج الأسد وعائلته من الحكم، وأنه لا مستقبل لهم في سورية خير دليل، على أن "خطاب" ترامب الانتخابي هو غير خطابه الرئاسي تماماً.
الكثير من المتابعين، بل وحتى أوساط حركة "فتح" في رام الله وأوساط السلطة ذاتها، بمن فيهم رأسها، تحدثوا خلال الأيام الأخيرة عن أن هناك إجراءات عديدة، تنوي السلطة الأقدام عليها، في حال لم تستجب حركة "حماس" لمطالب وفد حركة "فتح" الذي يستعد لزيارة القطاع والمكون من ستة أعضاء في اللجنة المركزية للحركة، يرأسهم نائب رئيس الحركة الأخ محمود العالول، في مقدمتها بالطبع التراجع عن تشكيل لجنة إدارة غزة، والشروع بتنفيذ المبادرة القطرية، وتمكين الحكومة من غزة، والشروع بإجراء انتخابات عامة خلال 3 شهور... إلخ.
أي أن قرار الخصم من الرواتب كان مقصوداً حتى في "إثارته" ليحرك الساكن في مياه المصالحة التي ركدت منذ وقت طويل، ومنها أن يتحرك الموظفون أنفسهم، ليخرجوا إلى الشارع، وبالطبع الهدف الأهم هو الضغط على حركة "حماس"، التي "صمدت" عشر سنوات، في حكم غزة بسبب أنها كانت _ كما هو حال الاحتلال _ معفاة من دفع ضريبة حكمها لغزة، فهي تحكمها والسلطة تتحمل أعباءها المعيشية، وربما أن البعض يشير إلى أن فاتورة الراتب التي بدأت بنحو أكثر من سبعين ألف موظف، وتبلغ حالياً نحو 54 ألف، توفر لـ"حماس" القدرة على التحمل أسبوعين شهرياً، أي أن "وقف" رواتب موظفي السلطة، إذا ما أضيف إليه التوقف عن تقديم خدمات الكهرباء، والصحة والتعليم، وحتى العمرة وجوازات السفر، فإن لجنة "حماس" التي تدير غزة ستنهار لا محالة!
لم تعد السلطة تفكر بقلبها تجاه غزة، كما اعتادت خلال 10 سنوات مضت، بل صارت تفكر بعقلها أو برأسها، لذا بدأت تفكر بعلاج جرح الانقسام المزمن بالكَيّ، والكَيّ مؤلم وموجع، لكن بعد أن عجزت الأدوية والمسكنات عن الشفاء من داء الانقسام، لجأت السلطة للكي، حيث أنها تعمل بمنطق "بط الدمل" مهما كان ذلك الأمر مؤذياً، ولعل هذا ما يفسر "صمت" بعض قادة وحتى كوادر حركة "فتح" من أبناء قطاع غزة، الذين كانت درجة حرارة الدم في عروقهم قد ارتفعت، يوم تلقوا هم وإخوتهم من موظفي السلطة رواتبهم الأسبوع الماضي مخصوماً منها 30%. وذلك بعد أن وقفوا عند الدافع لاتخاذ هذا القرار وما يهدف إليه من تحقيق هدف وطني منشود، يحلم به ملايين الفلسطينيين، منذ عشر سنوات مضت.
لا بد من لحظ هذا الأمر، أي اتخاذ القرار بالخصم من الرواتب، وحتى التطور المحتمل لأن يصل إلى حد إحالة كل موظفي السلطة في غزة للتقاعد، مع أن خصم الـ30% والذي اقتصر على موظفي غزة دون الضفة، يجعل من حجة العجز في الميزانية غير مقنع، يعني عملياً أن الراتب المتبقي هو عملياً راتب تقاعدي، لا بد من لحظ السياق الذي يجري فيه اتخاذ هذا القرار، فهو تلا محاولة السلطة إجراء انتخابات محلية، تمت عرقلتها، بحيث اضطرت السلطة لإعلان إجرائها في الضفة فقط، والذي يعني أنه دون أن يتم حدوث اختراق في جدار الانقسام، فإن السلطة تضطر إلى التراجع في اللحظة الأخيرة أو المضي قدماً بإجراء الانتخابات، ليبقى الانقسام إلى الأبد.
كذلك جاء الإجراء بعد القمة العربية في الأردن، وقبل توجه الرئيس محمود عباس لواشنطن والتقائه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث يمثل الموقف الأميركي بارقة الأمل الأخيرة للرئيس عباس، بعد أن أعلن ترامب اعتقاده بإمكانية التوصل للحل خلال ولايته وفي عهده، ومن الطبيعي أن يذهب أبو مازن وقد أغلق بوابة الضعف الذاتي المتمثلة بالانقسام، حتى يظهر للرئيس الأميركي أن الجانب الفلسطيني ليس جاهزاً للسلام، بموقفه المعتدل والقابل بحل الدولتين، بل أيضاً بقدرته على تنفيذ الحل وما يتم الاتفاق عليه، عبر حكومة وحدة وطنية للسلطة، لذا فإن أسبوعين قادمين، بغاية الأهمية بالنسبة للسلطة، حيث ستحدد موقفها _ عملياً وعلى الأرض _ ليس فقط باتجاه الانقسام وحسب، بل وباتجاه الاحتلال، لأنه بعد الالتقاء بترامب، لا بد من توجيه تهديد لإسرائيل مماثل لذاك الذي تم توجيهه لـ"حماس".
أمريكا تبحث مع السلطة الفلسطينية الاستقرار الاقتصادي بالضفة
22 أكتوبر 2024