لا يبدو البحث عن مخرج للحالة الفلسطينية العسيرة صعباً إذا توفرت النوايا الحقيقية وتم تغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الأخرى. بعد أسابيع ستمر الذكرى العاشرة للإنقلاب والاقتتال اللذين قادا إلى الانقسام السياسي والمؤسساتي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الأكثر عمقاً في التاريخ الفلسطيني المعاصر. وهي ذكرى لا بد مؤلمة أريقت فيها دماء وارتقى خلالها شهداء وجرح فيها المئات، وتركت ندباً بشعة في وجه النضال الفلسطيني التحرري. وإذا كان الوطن هو أن لا يحدث كل هذا بكلمات غسان كنفاني، فإن الأساس كان عدم الوصول إلى تلك اللحظات الأليمة التي لابد أن شهداءنا وعذابات المهجرين في سفر التهجير المهول مازالوا يلعنونا بسببها.
ليس من شك أن البحث في الماضي أيضاً من أجل اعادة عجلة الزمن لن يفيد بشيء، لكن أيضاً ترك آلام الماضي دون علاج لن يفيد في تصحيح الأخطاء. كل شعوب الأرض مرت في لحظات تاريخية مفصلية في حياتها باقتتال واحتراب واختلاف. وربما وحتى بتعابير أكاديمية فإن الحرب (بشقيها الداخلي والخارجي) مكون أساس في تكوين ونشوء الدول. وكما يقترح تشارلز تيلي في مؤلفه الشهير حول نشوء الدول فإن الدول لا تقوم دون منازعات واختلافات. ويمكن بنظرة خاطفة لتشكل الدول المعاصرة أن نكتشف حدة الصراعات الداخلية سواء بين شمالها وجنوبها أو قومياتها المختلفة، أو توجهات قواها السياسية. وبالطبع فإن العيب أن يقتتل شعب وهو مازال تحت الاحتلال وكأن أساس الصراع ليس التخلص من ربق الاحتلال ولكن من يقف على البوابة. ولكن وأيضاً لأن هذا شيء وانتهى، والذي لم ينته هو آثاره المدمرة، فإن التذكير به واجب.
ما الذي خلفّته لنا عشر سنوات من الانقسام؟! الكثير من العذابات والآلام وتراجع الاهتمام بالقضية الوطنية، وقلة الاهتمام الداخلي بقضايا التحرير. فالإنقسام هو كالبقرة المقدسة للبعض المتمسكين به حتى لو انتكبت فلسطين للمرة المليون، وهو لم يقسمنا إلى وحدتين جغرافيتيين فقط، إذ أن الفلسطينيين متواجدون على أكثر من بقعة جغرافية بحكم التهجير والتشتيت، ولكنه قضى على ممكنات تحقيق القليل من الحلم المتمثل بدولة على الجزء المتاح من أرض الآباء والأجداد. صار لدينا سلطتين وكيانيين وصار يصعب علينا أن نقول للعالم أننا شعب يصبو للاستقلال والحرية، إذ أن من يفقد الحرية في تعامله مع أبناء شعبه لا يمكن له أن يسعى للحصول عليها من المحتل. كما تعززت لدينا الهويات الفرعية على حساب الهوية الجمعية الشاملة التي كان التخلص منها أول وأهم أهداف الصهيونية حين يتحول الفلسطينيون إلى مجموعات مشتتة من اللاجئين الباحثين عن حياة آمنة في اماكن لجوؤهم. وربما بالنظر إلى الإقليم المشتت والممزق اكتشفنا أن هذه بات سمة بارزة لتبعات ما كان يعرف بالربيع العربي. أيضاً شبابنا باتوا لا يحلمون بتحرير فلسطين بل بالخروج منها، بالسفر، كلهم يحلم باللحظة التي ستخفق فيها أجنحته، حتى لو مثل إيكروس، فوق بحر غزة، يعبرونها إلى المنفى طوعاً، حتى لو كانت فرصة النجاة والوصول صفر. والكهرباء (أو القهرباء) صارت الكلمة الأثيرة عندنا، لأنها ضيف عزيز نادر الوصول، ولم يسبق له أن وصل ليوم كامل، كأنه يفعل بنصحية "الزيارة غارة". وبات النقاش الداخلي حول قضية الكهرباء أكثر حرارة وحميمية من النقاش حول البرنامج الوطني المشترك أو الخطوات الواجب الاتفاق عليها لتحقيق المصالح العليا. كأن ثمة تبدل في مفهوم المصالح العليا حيث تم وضع المصالح الحقيقية في أدراج مهملة ليغطها غبار الخلاف وبرزت على السطح المطامع الآنية التي أفرزتها الطغم المستفيدة من الإنقسام والمتربية في كنف مفاعليه.
أما عن الحالة الاقتصادية والمعيشية، فإن الحديث يطول ويجرح، لأن مستويات الحياة تدنت إلى مراتب لم تصلها من قبل. حتى أن إعادة إعمار ما خلفته الحرب الهمجية على القطاع بات مطلباً وطنياً لم يتحقق لأسباب كثيرة، يمكن تراشق الاتهامات حولها، لكن كل ذلك لن يفيد لأنه لن يعيد إعمار غزة. أما عن شعبنا العظيم في الشتات فإننا بتنا نفكر بحالنا وننسى أننا لا نشكل إلا نصف هذا الشعب وأن ما بنا من مشاكل صنعناها بأيدنا تركت آثاراً دامية على وحدته وقوته في الخارج.
بعبارة صغيرة، فإن الوضع بات لا يطاق، وبات الاستمرار فيه هو المشي في قلب العتمة دون أدنى يقين بفرص الخروج من الغابة. ووحدهم الذين لا يبحثون عن الحقيقة لا ينظرون إلى مواطن بزوغ الشمس بين الغيوم الكثيفة. لأن دائماً ثمة فرصة متوفرة. لكن وفيما ينهار المحيط حولنا، ويعاد تركيب المنطقة ودولها، لا يكمن لنا أن نظل صامتين موغلين في إنقسامنا. لأنه في لحظات كثيرة فإن الوقوف لا يعني إلا التراجع. وفي حالتنا الفلسطينية استمرار الوضع الراهن يعني أننا نعود القهقري
أيضا قد لا يبدو هذا مهماً، لأن التشخيص على أهميته لاستخلاص العلاج، ليس مهماً في الحالة الوطنية، إذ أن المهم هو إيجاد المخرج الحقيقي. والمخرج الحقيقي لابد أن أصغر طفل فلسطيني بات يعرفه يتمثل في قرارات جريئة تنتهي الإنقسام وتعيد توحيد المؤسسة الفلسطينية ومكونات الفعل الفلسطيني والذهاب لانتخابات شاملة يعاد فيها النظر للمواطن بوصفه صاحب القرار. وحتى من أجل الوصول إلى ذلك لا بد من الوصول إلي شيء انتقالي سريع ضمن ما يعرف بنظريات التحول بـ"الباكتوس" أو الصفقة التي يتم خلالها إزالة كل مظاهر الإنقسام وما نتج عنه خاصة في المجال السيادي والمجالات التي تمس التمظهر الامني والسياسي بغية تهيئة الأجواء لانتخابات نزيهة وحرة. فقط عبر مثل هذه الانتخابات يمكن أن نمحو المشاهد البشعة التي أساءت لشعبنا في ذاكرة محبيه ومناصريه من سحل في الطرقات وقتل وتدمير بيوت، وبدلاً من أن نخرج ضد بعضنا بعضاً نخرج موحدين بحثاً عن شعاع الشمس الأبدي.