فكرة اقامة "المعسكر الديمقراطي" العربي اليهودي في الكنيست (البرلمان الاسرائيلي)، طرحها في الفترة الاخيرة، وتحديدا منذ مطلع شباط/فبراير الماضي، رئيس القائمة العربية المشتركة في الكنيست، أيمن عودة. وهو مازال يطرحها ويبشر بها ويدعو اليها. وكان آخر منبر تحدث فيه حول هذا الموضوع، هو المؤتمر التاسع لـ»الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة»، الذي عقد في شفاعمرو في الجليل، يومي الجمعة والسبت، 7 و8 من شهر نيسان/ابريل الحالي، بمناسبة مرور 40 سنة على تشكل الجبهة، والتي هي بدورها احدى الثمار الاساسية، على صعيد الاوضاع السياسية والتشكيلات التنظيمية النضالية لـ»يوم الارض»، الذي تفجر يوم 30 اذار/مارس 1976.
غني عن التركيز ان مسألة التفكير والعمل على تأطير انواع عديدة من اشكال التعاون بين الفلسطينيين الحاملين لبطاقة الهوية الاسرائيلية، والافراد والكتل السياسية اليهودية في اسرائيل، ليست جديدة، فهي في صلب مواقف ومنطلقات "الحزب الشيوعي الاسرائيلي ـ ماكي"، منذ العام 1948، ووريثه، (بنسخته الفلسطينية)، "القائمة الشيوعية الجديدة ـ راكاح" في ستينات القرن الماضي، وامتد ذلك ليشمل تشكيل «تنظيم» الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وقائمة مرشحيها لجميع الانتخابات التي خاضتها للكنيست الاسرائيلي، بل وحتى لتشكيل قائمة «القائمة المشتركة»، (العربية الفلسطينية اساسا)، حيث اصرت الجبهة على عضوية دوف حنين اليهودي الاسرائيلي فيها، وليصبح واحدا من اعضاء كتلتها الحالية في الكنيست، المكونة من 13 عضو كنيست.
الا ان اختلاف ما يطرحه رئيس «القائمة المشتركة»، أيمن عودة، عندما يعمل ويدعو إلى تشكيل «المعسكر الديمقراطي»، عن كل ما اوردناه من وقائع، هو ان ذلك التاريخ من التعاون و»الاندماج» في العديد من ساحات النضال المطلبية والسياسية والوطنية، بين فلسطينيين عرب في اسرائيل، وبين يهود اسرائيليين، على مدى العقود السبعة من عمر دولة اسرائيل، ظل محتفظا، في غالبه الأعم، بلون فاقع هو لون تحالف وعمل سياسي لافراد وليس لكتل ذات وزن مؤثر في محيطها الخاص بها، سواء كان ذلك المحيط يهوديا او فلسطينيا عربيا. وينطبق ذلك على افراد فلسطينيين عرب في احزاب او قوائم انتخابات يهودية، وعلى يهود اسرائيليين في احزاب او قوائم انتخابات فلسطينية عربية. دون ان يعني ذلك انعداما كاملا لوجود تكتلات سياسية تنظيمية وحزبية ضعيفة هنا وهناك.
يقول أيمن عودة في شرحة لمبررات ما يدعو اليه من تشكيل «المعسكر الديمقراطي»، ان في الكنيست الاسرائيلي «معسكر اليمين» الذي يشكل الحكومة الاسرائيلية الاكثر عنصرية بين الحكومات الاسرائيلية، (حتى الآن، على الأقل)، وهناك «المعسكر الصهيوني»، وهو يميني ولكنه يشكل، بالمقاييس الاسرائيلية طبعا، الوسط، وتستدعي مصلحتنا ان نشكل «المعسكر الديمقراطي» لمواجهة تغوّل الحكومة والسياسة الاسرائيلية.
هذا منطق سليم. لكنه اهم من ذلك بكثير. انه يشكل، في حال نجاح ايمن عودة ومناصريه في اقامته، نقلة نوعية بالغة الاهمية في «الدور» والوزن الذي يمكن ان يمارسه الاعضاء الفلسطينيون في الكنيست، على صعيد نضالاتهم المحقة في ما يخص المساواة وانهاء التمييز العنصري ضد جماهيرهم الفلسطينية في اسرائيل وكافة قضاياهم المطلبية، كما على الصعيد الوطني الفلسطيني في ما يخص انهاء الاستعمار الاسرائيلي لاراضي الدولة الفلسطينية، وحقوق اللاجئين الفلسطينيين العادلة القابلة للتحقيق، وعلى الصعيد القومي العربي وقضايا الصراع العربي الصهيوني كذلك.
في حال امكن لهذا التوجه ان يتحقق، حتى ولو جزئيا في مراحله الاولى، فانه سيكون اساساً وقاعدة انطلاق يمكن البناء عليها، وصولا إلى فضاءات جديدة تماما، توفر وتُؤمّن دورا للفلسطينيين للتأثير في السياسة الاسرائيلية، للتقليل والتخفيف من مضارها وشرورها بداية، ثم للعمل على تحويلها لاتجاهات تخدم مصالح الفلسطينيين عموما، واليهود في اسرائيل، وكسر قاعدة ان «كل ما هو مضر للفلسطينيين جيد لليهود»، و»كل ما هو مضر باليهود جيد للفلسطينيين».
هذا هدف بعيد، وهو صعب المنال، ولكنه ليس مستحيلا باي حال. والفلسطينيون العرب، حاملو بطاقة الهوية الاسرائيلية، الذين يشكلون اكثر من 20٪ من اصحاب حق الاقتراع، قادرون في حال توفر قيادة حكيمة واعية لهم على تحويل هذا الهدف من حلم إلى احتمال، ومن احتمال إلى واقع، بهدف ان يقترب وزنهم في التأثير على رسم ووضع السياسة في اسرائيل من ذلك الذي يتمتع به اليهود في أمريكا، ومجمل منافعه المنعكسة على اسرائيل. وانعكاس ذك ايجابيا على مجمل قضايا ونتائج الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، وصولا إلى السلام المنشود، القائم على الحق والعدل، وضمان واقع ومستقبل للشعب الفلسطيني، مختلف ومناقض لما هو تاريخ معاناتهم على مدى قرن ويزيد.
طبيعي ان تقابل هذه الخطوة الشجاعة لأيمن عودة، وما تفتحه من آفاق جديدة وما تتطلبه من حنكة وجرأة، وما تتطلبه من خوض نقاشات ومداولات وسعي للوصول إلى قواعد عمل مشتركة مع احزاب سياسية، ومع قطاعات اجتماعية يهودية اسرائيلية، وما قد يتخلل ذلك من قبول بتقديم تنازلات معينة، مقابل تحقيق انجازات محلية ومطلبية، وانجازات وطنية فلسطينية، وانجازات على الصعيد القومي العربي، بردود فعل متضاربة، قد يصل بعضها حد الشطط، جراء خوض معارك وتجارب لا سابق عهد لكثيرين بها وبقواعد العمل وفق قوانينها، وما في ذلك من مخاطر اكيدة. إلا ان التخوف من دخول تجربة جديدة وواعدة، لا يجوز ان يشكل عائقا امام خوض هذا الشكل المتقدم من النضال الهادف إلى بناء الذات، دون ان يعني، بالضرورة، هدم الآخر.
في الارض متسع للجميع. وفي ارض فلسطين متسع لاهل البلاد الاصليين: شعبنا الفلسطيني الذي عانى ويعاني منذ اكثر من مئة سنة، من مؤامرات الاستعمار البريطاني، ومن التخلف الذي اوقعتنا في براثنه الامبراطورية العثمانية، واكثر من هذا وذاك، عانى ويعاني شعبنا الفلسطيني من الحركة الصهيونية التي دفعت بعشرات الآلاف من يهود اوروبا إلى وطننا، طمعا في استعمار فلسطين والاستيطان فيها وطرد ما امكن من اهلها وشعبها، وكل ما رافق وتلا ذلك من ظلم لشعبنا واجحاف بحقوقه الشرعية كافة. كما في ارض فلسطين، وطننا الذي لا وطن لنا سواه، متسع لليهود الاسرائيليين، وكل ما اتوا به من امكانيات مادية وعلمية وتقدم وعصرية، عمّرت ارض فلسطين، شريطة التوصل إلى معادلة انسانية مبدعة تستوحي قاعدة «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم»، بهدف الوصول إلى حل منطقي مقبول، يمكن التعايش معه وبفضله، بين اصحاب البلد الاصليين والجيل الرابع والخامس من آباء الحركة الصهيونية الاستعمارية، ومن يتخلى منهم عن سياسة التمييز والعنصرية والابرتهايد، ويقبل بالتقاسم العادل لكل ما تحويه ارض فلسطين من بشر من الشعبين، وما في الارض من خيرات ومنافع نتيجة تاريخها العريق، وموقعها المميز، وما اتى ويأتي به اليهود الاسرائيليون من ايجابيات يجدر الاحتفاظ بها وتنقيتها، بجهود مشتركة، من كل ما اتت به من شرور وسلبيات، وهو كثير جدا ومتجذر في عقول حكام اسرائيل، لكنه قابل للتطهير، إذا تعاونت الجماهير العاقلة من ابناء شعبنا مع طيبين كثيرين في المجتمع اليهودي الاسرائيلي، تستدعي مصلحة شعبنا العمل على زيادة اعدادهم وتشجيعهم بتطوير مفاهيمهم، والتعاون معهم لتعظيم دورهم في مواجهة عتاة العنصريين في الحركة الصهيونية، لما يعود من ذلك من منافع وتحقيق مصالح لشعبنا واجيالنا المقبلة، ولليهود في اسرائيل واجيالهم المقبلة ايضا.
ليس هذا الهدف سهل التحقق، إلا انه لا بديل عنه، وخاصة في ضوء ما هو عليه الوضع الفلسطيني عموما من تمزق وتهافت، وما هو عليه حال الامة العربية وشعوبها ودولها وقواها المتصارعة بدموية لا سابق عهد لنا بها.
اعرف مسبقا ان هذا الطرح سيقابل بهجوم حاد من جهات واتجاهات عديدة. عندي كثير مما يمكن ان يقال حول هذا الامر، لكن لضرورة التزام المقال بحجم محدد احكام مُلزِمة.
عن القدس العربي