يعيش قطاع غزة حالة استثنائية منذ الانسحاب الإسرائيلي منه صيف عام 2005، فالتحولات العميقة التي مرت بها الأوضاع في قطاع غزة على مدار العشر سنوات الماضية، تؤكد وجود مخطط محكم، لتنفيذ مشروع فصل غزة عن باقي الأراضي الفلسطينية، وإقامة كيان معزول فيه، يكون بديل عن الدولة الفلسطينية، هذا المخطط بدأ منذ مشروع شارون بانسحاب الجيش الإسرائيلي وتفكيك المستوطنات منه، في اطار خطة الانسحاب التكتيكية التي نفذها الجيش الإسرائيلي صيف العام 2005م، فهذه الخطوة لم تكن مفهومة حينها، ولم تكن واضحة المعالم والأهداف لنا، كما هي الأمور الآن، فإسرائيل قد خططت لهذا الواقع بكل عناية وبدقة شديدة، البداية كانت عبر تنفيذ إسرائيلي انسحاب شكلي من القطاع، وهي تدرك ضعف السلطة، وعدم قدرتها على ضبط الأوضاع الأمنية، في مقابل قوة الفصائل الأخرى، وخاصة حركة حماس، وادراك إسرائيل بإمكانية سيطرة حركة حماس على القطاع بالقوة. كما قال شارون للواء عمر سليمان أثناء مفاوضات السيطرة على محور الحدود المصرية الفلسطينية.
وتعتبر خطة فك الارتباط، أو على وجهة الدقة خطة "اعادة الانتشار" من المستوطنات الاسرائيلية من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، مفترق طرق بالنسبة لسياسة اسرائيل في المناطق التي احتلها الجيش الاسرائيلي خلال حرب عام1967م. حيث انطويت خطة فك الارتباط على ابعاد استراتيجية متعددة الدلالة؛ بالنسبة لسياسة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية على حدا السواء، فقد تركت الخطة تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية على غزة مازالت تأثيراتها قائمة حتى الوقت الراهن، وترتب عليها حروب وأحداث وتداعيات ألقت بظلالها على الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة والجوار العربي والإقليمي حتي هذه اللحظة. وقد جاءت خطة فك الارتباط تنفيذاً لدراسة اعداها مركز جافي الإسرائيلي للدراسات السياسية والاستراتيجية التي تنبأ فيها منذ العام 1989 بعودة منظمة التحرير الفلسطينية وتوليها قيادة السلطة الفلسطينية وحدوث صراع سياسي بين الفلسطينيين.
وضعت الدراسة التي جاءت بعنوان "الضفة الغربية وغزة-خيارات إسرائيل للسلام". مجموعة من السيناريوهات والخيارات المستقبلية أمام صانع القرار الاسرائيلي، وكان من بين تلك الخيارات، خيار بعنوان "انسحاب من غزة من جانب واحد" وكان كالتالي: "تقوم إسرائيل بسحب قواتها من قطاع غزة من جانب واحد بلا مفاوضات مسبقة أو اتفاق مع أي طرف عربي بما في ذلك الفلسطينيون. وسينطوي الانسحاب على قطع الارتباطات كليا، وتسييج الحدود الكترونيا، وتلغم للحؤول دون تسلل إرهابي، ولضمان امن إسرائيل، وتسير إسرائيل دوريات في مياه القطاع الإقليمية لمنع إدخال الأسلحة إلى جيش فلسطيني، ومن الممكن أن تكون الآثار الناتجة داخل القطاع صراعاً حاداً بشأن السلطة بين وطنيين علمانيين (مدعومين بعناصر م. ت. ف يأتون من الخارج)، وبين مسلمين أصوليين يتمتعون بقدرة اكبر من قوتهم بالضفة الغربية، وأيا تكن النتيجة فان الدويلة في غزة ستلتهب نزاعا مطردا باستمرار مع إسرائيل وستجد السلطات الغزية صعوبة في احتواء العنف الموجه نحو إسرائيل، وفي حين أنها ستكون قلقةً بالتأكيد من ردأت إسرائيلية انتقامية عنيفة وغير مهتمة لعودة الاحتلال، فمن غير الواضح إلى أي درجة سيرتدع السكان عامة بفعل خطر الأخير، فالأحوال في غزة قد تسوء إلى درجة ان بعض الغزيين قد يستعيد ذكرى الاحتلال الإسرائيلي بشيء من الحنين"
وبالفعل سارت الأمور في قطاع غزة نحو تنفيذ المخطط الاسرائيلي بكل حذافيره، بعد تنفيذ القوات الاسرائيلية عملية اعادة انتشار حول قطاع، وأبقت عوامل السيطرة الغير مباشرة على هذا الجزء من الوطن في يد الجيش الاسرائيلي، وظلت تتحكم بالجو والبحر والبر، وحركة المعابر التجارية، وعملت غلى اضعاف السلطة الفلسطينية، من أجل تهيئة الظروف المناسبة لتنفيذ المخطط الهادف لسلخ قطاع غزة عن فلسطين، وللأسف الشديد ابتلع البعض الطعم ووقع في الفخ الاسرائيلي المرسوم منذ سنوات، بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة بالقوة العسكرية، وأضحى قطاع غزة معضلة سياسية واقتصادية واجتماعية، وتحول هذا الجزء الغالي من الوطن من باعث للكينونة الي معضلة بعد أكثر من عشرة سنوات من تنفيذ ذلك المخطط الإسرائيلي، نظرا لتكرار الحروب التي شنتها اسرائيل وفرضها حصار تجاري وسياسي الأمر الذي أدى لتفاقم الأوضاع المعيشية.
عشرة سنوات عجاف من عمر الانقسام الفلسطيني الذي جاء كأحد نتائج الانسحاب الإسرائيلي التكتيكي منه، عشرة سنوات مرت على هذا الجزء من الاقليم الجغرافي لفلسطين، ومازالت الأمور تسير فيه نحو الأسوأ، فقد ترك الانسحاب الاسرائيلي من غزة، القطاع يلاقي مصيره، وفي حالة من التوهان السياسي والاقتصادي والاجتماعي لم يسبق لها مثيل، فقد سعت اسرائيل إلى وصول الاوضاع إلى هذه الدرجة من التفكك والانهيار بعد تنفيذها انسحاب شكلي من القطاع.
وهكذا تحول هذا الجزء من الوطن من باعث للكينونة ومهداً للوطنية الفلسطينية إلى معضلة؟ ، الأمر الذي يتطلب العمل بشكل فوري على استعادة الوحدة الوطنية وانهاء الانقسام، وتوحيد الصف الوطني من خلال الاتفاق على استراتيجية وطنية شاملة تقوم على تعزيز مقومات الصمود الداخلي، وتفعيل الاشتباك السياسي والقانوني من الاحتلال في الساحة الدولية، وتطوير المقاومة الشعبية والمقاطعة الاقتصادية، بهدف الضغط على حكومة الاحتلال وجعل الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية أكثر كلفة.