الفلسطينيون أمام خطر خسارة الهوية

thumbgen (9).jpg
حجم الخط

 

عندما نتحدث عن الفلسطينيين اليوم نجد أنفسنا في حيرة، إذ إن كلاماً عمومياً كهذا بات يدخل في باب المجاز أو الإنشاء، إذا أمعنا التفكير في الأمر، بعيداً من الرغبات الكامنة أو البديهيات المطلقة، وإذا كنا صادقين مع أنفسنا، أي بمعزل عن محاولاتنا المكابرة وإنكار الواقع القائم بتعقيداته ومشكلاته وتداخلاته.

مثلاً، عن أي فلسطينيين نتحدث اليوم؟ هل نتحدث عن فلسطينيي 1948، أو عن فلسطينيي الضفة، أو فلسطينيي غزة (في ما بات يعرف بالداخل)، أو عن الفلسطينيين اللاجئين في الخارج، في الأردن ولبنان وسورية والعراق ومصر، وبلدان الشتات على امتداد قارات الدنيا، علماً أن كل تجمّع له خصوصياته ومشكلاته وأولوياته؟

نعم ثمة شعب فلسطيني لديه سردية تاريخية واحدة، وآمال مشتركة، لكن هذه الحقيقة لا يمكن أن تبقى مطلقة وثابتة مع تعقيدات الواقع، والخضوع لأنظمة مختلفة، ومرور ستة عقود، ومع أفول منظمة التحرير، وتحوّل حركة التحرر الوطني الفلسطينية إلى سلطة، في جزء من أرض لجزء من الشعب مع جزء من الحقوق. والمعنى أن حقيقة وجود الفلسطينيين كشعب لا تبقى هي ذاتها، في الظروف المذكورة، إذ إنها بدورها تتعّرض للتآكل، أو الإزاحة، لمصلحة حقائق أخرى، أو لمصلحة التمايز، وحتى الافتراق، في إدراكات ومصلحة وأولويات الفلسطينيين في كل تجمع إزاء التجمع الآخر.

في الستينات والسبعينات والثمانينات استطاعت منظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها الكيان السياسي الجامع للشعب الفلسطيني، والمعبر عن قضيته، أن تشكّل ما يمكن تسميته «بوتقة الصهر» للفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم، حتى أن تأثيراتها وصلت إلى فلسطينيي 1948، على رغم الخلل المتمثل بعدم إيجاد الأطر التي تمكّن هذا التجمّع من الانخراط في المنظمة مباشرة أو مداورة.

ثمة مشكلتان هنا، أولاهما، أن «بوتقة الصهر» تلك اشتغلت، أو تركّزت، على الإدراكات الهوياتية الجمعية من دون أن تقرن ذلك بإنشاء أطر أو مؤسسات وطنية جامعة ومستدامة، بل أن كل ما تم بناؤه على هذا الصعيد جرى تهميشه أو التخلّي عنه، بحكم ضعف إدراكات آباء الحركة الوطنية الفلسطينية لأهمية هذه البنى، في حركات طغت عليها الروح الشعاراتية والمزاجية وتقديس العمل المسلح وغياب المراجعات النقدية.

أما المشكلة الثانية، فهي ناجمة عن أن وجود المنظمة، التي استنهضت الوجود الفلسطيني في مرحلة ما بما لها وما عليها، أدى في ما أدى إليه إلى ضمور المجتمع المدني في تجمعات الفلسطينيين والهيمنة عليه، أو طبعه بطابعها، ما نجم عنه أيضاً تهميش دور الطبقة الوسطى، ومن ضمنها المثقفون «المستقلون»، إذ تماهت غالبية الفلسطينيين، بنخبهم، مع منظمتهم، يأتي في إطار ذلك الطبقة الوسطى بمثقفيها وأكاديمييها. وبالنتيجة فإن انحسار مكانة هذه المنظمة، وأفول دورها، وترهّل بناها، أدت إلى نتائج سلبية جداً، إذ خسر الفلسطينيون في ذلك منظمتهم، أو الإطار الجمعي الذي يمثّلهم، ويعبّر عن آمالهم وهمومهم المشتركة، وفي الوقت ذاته كانوا خسروا طبقتهم الوسطى، كما خسروا تبلورهم باتجاه مجتمع مدني، وإن في إطار مجتمعات أخرى يعيشون بين ظهرانيها.

هكذا ليس للفلسطينيين اليوم، على رغم أنهم يعتبرون من أكثر مجتمعات المنطقة ثقافة وحراكات سياسية، أية تعبيرات مستقلة، تعبر عنهم، بعد أن أضحت المنظمة بمثابة «رجل مريض»، وبعد أن باتت السلطة معنية بجزء من الفلسطينيين، وبعد أن غدت معظم الفصائل أثراً من الماضي، قد لا يقبلها حتى «متحف التاريخ». يفاقم من ذلك أن الطبقة الوسطى، في كافة تجمعات الفلسطينيين، تبدو منكفئة على ذاتها، وتفتقد المبادرة والجرأة والاستقلالية، كأنها فقدت فاعليتها، وتخلّت عن دورها القيادي، أو الحامل للتغيرات، كحال الطبقات الوسطى في مختلف المجتمعات.

لعل كل ذلك يجد تعبيراته في عدم وجود ولو محطة فضائية أو صحيفة أو جامعة للفلسطينيين، فما هو موجود هو محطات أو صحف لبعض الفصائل، أو لبعض التجمعات، أما الفضائية أو الصحيفة التابعة للسلطة فلا تعبران عن كونهما كذلك بالنسبة الى الفلسطينيين في أماكن تجمعاتهم كافة لا في مواضيعها ولا في استقطاباتها. حتى المجلس الوطني الفلسطيني، وهو المنبر الجامع لكل الفلسطينيين، تم تغييبه طويلاً، وهذا ينطبق على الفصائل، ومن ضمنها «فتح»، التي باتت تعبر عن الفلسطينيين في الداخل (أراضي الـ1967)، بل حتى عن فلسطينيي الضفة أكثر بكثير من كونها تعبر عن الفلسطينيين في أماكن تواجدهم كافة.

يستنتج من ذلك أن على الفلسطينيين، وقياداتهم وطبقتهم الوسطى ومثقفيهم، أن يدركوا أن العيش على السرديات التاريخية لم يعد يكفي كي تبقى إدراكات الشعب لذاته أو لهويته بوصفه شعباً هي ذاتها، فكيف إذا كان هذا الشعب مجزّأ ويعيش في ظروف مختلفة؟ والقصد أن اختلاف أوضاع الفلسطينيين تفتح على التمايز والافتراق في رؤيتهم لذاتهم ووعيهم لمصالحهم وأولوياتهم، وهذا ناجم بدوره عن نشوء سرديات جديدة أخرى، مع نشوء أجيال جديدة، إذ الحديث يجري عن عقود، وليس عن سنوات، وهذه السرديات من شأنها أن تزيح سابقاتها، أو تغطيها، أو تهمشها، كي تحلّ محلّها أولاً.

هذه الحقيقة الصعبة والمرّة هي التي ينبغي إدراكها، أي طغيان الاختلافات على المشتركات في الحالة الفلسطينية الراهنة، وذلك بدل المكابرة والإنكار والتهرب من المسؤوليات. وملاحظة أن هذا الأمر يجري مع غياب منظمة التحرير، وأفول حركة التحرر الفلسطينية، وشيوع حال الإحباط والضياع والتفكّك في مجتمعات الفلسطينيين، وضعف مبادرة الطبقة الوسطى، بخاصة مع ما جرى، مثلاً، لفلسطينيي سورية ولبنان والعراق، وما يجري بين كياني السلطة في الضفة وغزة، وتآكل دور الفصائل، بل والأهم مع بقائها كقيد يثقل على أية محاولة للتغيير. وعلى سبيل المثال، فما الذي يجمع اليوم، على صعيد الهموم والمصالح والأولويات، بين الفلسطيني السوري والفلسطيني في مناطق 1948 أو بالفلسطيني في الضفة؟ وما الذي يجمع الفلسطيني في الأردن بالفلسطيني السوري أو اللبناني أو العراقي؟

القصد من هذا الكلام دق جرس الإنذار بأن الأمر لم يعد يتعلق بتفكيك القضية الفلسطينية وتصفيتها على ما يحلو لأرباب الأيديولوجيات والمبادئ والفصائل الحديث عنه، إذ إن الأمر يتعلق أساساً، وقبل أي شيء، بتفكيك مفهوم الشعب الفلسطيني، أو بتقويض هذا المفهوم، وجعله من دون معنى، أو اختزاله بالفلسطينيين في الضفة وغزة، وربما في الضفة وحدها، على ضوء التناحر بين الفصيلين المهيمنين في كل منهما.

لكن الأمر هنا لا يتعلق بتحميل المسؤولية عن هذا التدهور المريع في حال الفلسطينيين، وفي إدراكهم لذاتهم كشعب، إلى حركتي أو سلطتي، «فتح» و «حماس»، فقط، وإنما يتعلق أيضاً بتحميل المسؤولية للطبقة الوسطى من الفلسطينيين، مثقفين وأكاديميين وفنانين، من المعنيين، قبل أي أحد آخر، ببعث الروح الفلسطينية، وصوغ هوية الفلسطينيين، وحراسة سرديتهم التاريخية، طبعاً ليس بمعنى إغلاقها، وتحويلها إلى «تابو»، وإنما بمعنى إغنائها واستكمالها بسرديات الفلسطينيين الجديدة، لأنها ليست مجرد سردية متخيّلة، بل لأنها سردية تحض على طلب الحقيقة والعدالة والحرية، باعتبار ذلك بمثابة المدخل المناسب لتحرير الفلسطيني من سرديته الخاصة وبناء سردية مغايرة.

عندما تحدث بنديكت اندرسون عن «الجماعات المتخيلة»، وعن دور التخيّل في بناء الهويات أو الجماعات القومية، كان يتحدث عن كيفية تحويل التخيّل إلى قوة في الواقع، في حين أن سردية الفلسطينيين، بصورها ورموزها وأحداثها، ليست متخيّلة، أي منبثقة من الواقع أساساً، في حين أن هذا الواقع هو الذي يتغير، أي أن الفلسطينيين في حالتنا يخسرون سرديتهم، أو ادراكاتهم عن ذاتهم، ويخسرون أيضاً واقعهم ومستقبلهم كشعب، في حال بقيت الأمور على ما هي عليه، ما يضفي صدقية على المقولة التي سعت الحركة الصهيونية، منذ قرن، لترويجها، والمتعلقة بعدم وجود الشعب الفلسطيني.

والحال فإن كل المعنيين من الفلسطينيين يتحملون المسؤولية عن هذا التدهور وعن ضرورة المبادرة، قيادات سياسية ومثقفين وأكاديميين وفنانين ورجال أعمال، بغض النظر عن خنادقهم السياسية وأيديولوجياتهم ومصالحهم الآنية، لإعادة بناء الأطر الفلسطينية الجمعية، على قواعد وطنية وتمثيلية وديموقراطية ومؤسساتية، علماً أننا هنا لا نتحدث لا عن حرب تحرير ولا عن كفاح مسلح، وإنما عن بناء المجتمع الفلسطيني وبناء كياناته الجمعية.

الفكرة أن غياب الفلسطينيين، أو تفكّك أحوالهم كشعب، يعني أيضاً غياب هذه القضية، أو يجعل الكلام عنها من باب الإنشاء والاستهلاك وتبرئة الذمة وأغراض الفولكلور، وليس أكثر من ذلك.

عن الحياة اللندنية