في ذكرى النكبة: خواطر في المستقبليات

s
حجم الخط

علاقة النكبة بالزمن علاقة قلقة. لكنها مع ذلك لا تختلف عن مفعول العلاقة بين الزمن والسرعة والمسافة إلاّ بالرداء الأدبي للمسألة.
صحيح أن نسبية آينشتاين قد أعادت طرح المعادلة بأبعاد لم يكن يعرفها الإنسان قبل هذه النظرية، لكن جوهر علاقة الزمن بالنكبة هو نوع من تأكيد هذه النظرية.
فمهما طال الزمن ـ زمن النكبة ـ فإن لحظة الاستقلال الوطني الناجز التي قد تنطوي على أجزاء صغيرة من الثانية تعادل في جوهر الأمر مئات السنين التي «أنجبت» النكبة وهي بكل تأكيد تعادل مئات السنين التي ستلي تلك اللحظة.
أي ان لحظة الاستقلال الوطني ـ في بعدها الفلسطيني العميق ـ أكبر وأطول من كامل تاريخ قهر الاستعمار الغربي الذي ورث كامل مرحلة القهر العثماني لشعوب أمتنا العربية وفي القلب منها شعبنا الفلسطيني. لماذا؟
لأن لحظة الاستقلال الوطني ـ حتى وإن كانت على جزء صغير من فلسطين ـ هي اللحظة التي يكون فيها المشروع الاستعماري، الوارث والموروث قد انهار في نقطة قوته المركزية، أي نقطة نفي الوجود الفلسطيني لشعب بكامله وتجريده ليس فقط من عنصر الأرض والموارد وإنما ـ وهذا هو الوجه الآخر للمشروع ـ تجريده من ذاكرته الوطنية وهويته القومية ومن كل ما يمكنه من البقاء والصمود والقدرة على المقاومة.
لم أكن أدرك بكل صراحة أن المشروع الصهيوني ينطوي على جذرية موضوعية تفوق كل تصور سياسي مسبق. فقط منذ عدة سنوات وفي لحظات استرجاع وتأمل فهمت أن المشروع الصهيوني ـ موضوعياً ـ ومع كامل إدراكي لدرجة النسبية في هذه «الموضوعية»، لا بد وأن يكون جذرياً إلى درجة يستحيل معها تحول هذا المشروع إلى أي مشروع جديد ـ من زاوية التكيّف والمواءمة ـ دون أن يكون في الواقع قد فقد جوهره، ودون أن يكون من الناحية العملية قد أخلى الطريق لمشروع آخر لا يمتّ للمشروع الأصلي بصلة حقيقية.
أقصد أن المشروع الصهيوني عندما يضطر للتسليم بالحقوق الوطنية ـ ولو بالحدود التي تنص عليها الشرعية الدولية ـ وعندما يقر للشعب الفلسطيني بحقه في تقرير مصيره على الجزء الذي تحدده الشرعية الدولية من جغرافية فلسطين التاريخية، وبحقه في العودة إلى وطنه وفق نفس تلك القرارات ومن خلال نفس هذا المنظور... يكون المشروع الصهيوني قد خسر الحرب التي امتدت لمئة عام ويكون هذا المشروع ـ في الواقع ـ يخوض المعركة الأخيرة والفاصلة للبقاء حياً وليس المعركة الفاصلة وليس النهائية بالنسبة لمستقبل الشعب الفلسطيني.
المشروع الصهيوني بهذا المعنى يكون قد هزم والمشروع الوطني بهذا المعنى يكون قد انتصر، وبين هذه الهزيمة وهذا النصر قد تمتد مسافة طويلة وقد يمتد الزمن لعشرات من السنين، لكن النكبة تكون قد انتقلت وتجاوزت بمقياس الزمن نفسه مئات السنين التي سبقت النكبة ومئات السنين التي سيتشكل خلالها المشروع الجديد.
لم يسبق لمشروع في التاريخ المعروف لنا أن دعم ومد بكل ركائز القوة كما كان عليه الأمر بالنسبة للمشروع الصهيوني.
ولم يسبق أن سخرت لمشروع سياسي كل الموارد التي سخرت للمشروع الصهيوني، ولم يسبق في كل تاريخ البشرية المعروف أن أُلحق بشعب كل هذا الظلم الذي أُلحق بالشعب الفلسطيني على الرغم من الجرائم التي ارتكبت بحق شعوب عديدة على يد منظومات الغرب الاستعماري بأشكاله الحديثة والقديمة على حد سواء.
ومع ذلك فإن كل ركائز القوة والإسناد للمشروع الصهيوني لم تمكنه أبداً ـ وهي لن تمكنه أبداً ـ من الانتصار على شعب فلسطين لأسباب لا يفهمها المستعمر ولا يريد أن يفهمها المستوطن الجديد.
المشروع الصهيوني فقد وإلى الأبد المبرر الحقيقي لوجوده من الجانب الأيديولوجي، وانهار المشروع تماماً في بعده الفكري والأخلاقي والثقافي، ولم يعد هذا المشروع قائماً إلاّ في بعده العسكري والأمني. وهذه هي بالضبط عناصر ضعفه التاريخية، وهذه هي علامات الطابع المؤقت ـ من الزاوية التاريخية ـ لهذا المشروع.
كل مشروع استعماري ـ من النمط الصهيوني ـ قاوم حتى اللحظة الأخيرة بكل الوسائل والسبل مواجهة الوجود الوطني للشعوب المستعمرة ـ وحاول التنكر لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، ماذا كانت النتيجة؟!
كان د. عبد الوهاب المسيري ـ رحمه الله ـ قد قال: إن المشروع الصهيوني سيعاني من مسألتين اثنتين:
ذلك أن هذا المشروع، نشأ وتطور وتفوق بفعل الدعم الغربي المطلق، وبفعل الضعف العربي المطلق.
فالدعم الغربي لم يعد مطلقاً ـ ولكنه ما زال قائماً بقوة في جانبه الأميركي على الأقل، والضعف العربي لم يعد مطلقاً على الرغم من كل حالة «العبث» التي تعتريه.
وفي مطلق الأحوال فإن الدعم الغربي المطلق هو عامل مؤقت في التاريخ، والضعف العربي المطلق هو عامل مؤقت، أيضاً. لهذا فإن المشروع الصهيوني ليس أمامه في الواقع سوى تجديد نفسه أيديولوجياً وفكرياً وثقافياً لكي يستعيد قدرته على «المقاومة» وقدرته على البقاء وهو لن يجد طريقاً إلاّ طريق الدولة اليهودية.
لكن طريق الدولة اليهودية طريق خطر داخلياً، وهو طريق أخطر خارجياً، لأن مشروع إقامة دول الطوائف ـ حتى تكون إسرائيل دولة طبيعية ـ يحتاج ليس فقط إلى «الوقت»، وإنما إلى أسس يستحيل فبركتها في المدى المنظور.
وإذا كانت إسرائيل تعتقد أن العالم العربي يسير نحو تفكيك الدولة الوطنية لكي يستبدلها بالدولة الطائفية أو العرقية أو الدينية فهذا هو الوهم بعينه.
إن الذي يجري هو محاولة، مجرد محاولة بهذا الاتجاه، أما الحقيقة فهو أن الذي يجري هو تفكيك الدولة الفاشلة لكي تتم إعادة بنائها بالدولة الوطنية المدنية الديمقراطية، وكل ما عدا ذلك هو مجرد مظاهر لحالات مرضية سياسية، ولحظات ضعف يحاول الجزء الأكبر من الإسلام السياسي استثمارها لصالح مشروعه الخاص الذي يلتقي بالمشروع الغربي من أوسع أبوابه والمشروع الصهيوني من بعض نوافذه الكبرى.
المشروع الصهيوني يدخل في مرحلة النهاية، واليمين الإسرائيلي مرعوب من هذه الزاوية بالذات، وأما ما يسمى بالوسط واليسار فهو أجبن من مواجهة الحقيقة لوقف التدهور نحو الهاوية.
في لحظة قادمة ستتقاطع وترتطم النكبة مع زمنها وجهاً لوجه، وحينها ستكون معركة المشروع الصهيوني بالسباق مع الزمن قد فات أوانها، ذلك أن ارتطاماً من هذا النوع يؤسس لمشروع جديد يحمل من الإنسانية والتسامح ما يمكّن الشعبين من إيجاد صيغة مبتكرة للزمن الجديد.