علينا أن نعترف بأن زيارة الرئيس محمود عباس إلى واشنطن هي أهم زيارة لزعيم شرق أوسطي، وذلك بالنظر إلى أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة لكل منطقة الإقليم، ولأن الطرف المقابل للطرف الفلسطيني في معادلة الصراع الرئيسية في هذه المنطقة هو إسرائيل، ولأن إسرائيل هي حليف خاص ومميز للولايات المتحدة، ولأن إسرائيل إضافةً إلى كونها حليفا خاصا فهي، أيضاً، لاعب في المعادلة الداخلية الأميركية فإن الولايات المتحدة تدرك أن المنطقة ومفتاحها وسرّ استقرارها إنما يكمن في حل هذا الصراع.
لكن يا ترى ما هي حدود التفاهم الممكنة بين القيادة الفلسطينية والإدارة الأميركية الجديدة؟ وهل ان المسألة محكومة لهواتف مسبقة من قبل الطرفين، أم ان الأمر ينطوي على كثير من الألغاز التي لا يمكن حلها قبل هذه الزيارة؟
هناك على هذا الصعيد «نقاش» وجدل يدور في الأروقة الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والأميركية بكل تأكيد.
إسرائيل تبدو في غاية الانزعاج من هذه الزيارة، والمراقب المحايد يلاحظ أنها (أي إسرائيل) تتنطّح لحملة واسعة من التحريض وافتعال «الملفات» الثانوية والهامشية لكي تشوش على هذه الزيارة، مثل ملف الدعم الحكومي لعائلات الشهداء والأسرى، وإسرائيل توظف بعض الأبواق الإعلامية للتشويش على الرئيس أبو مازن نفسه، حيث لم تتورّع بعض هذه الأبواق من العودة إلى الحاج أمين الحسيني ومواقف الرئيس المعادية للدولة الإسرائيلية ووجودها، وكذلك عن «الإرهاب» السياسي الذي يتزعمه الرئيس الفلسطيني ضد الدولة الإسرائيلية وغيرها من الأطروحات التي تعكس خوف وخشية القيادة الإسرائيلية من تبني الإدارة الأميركية لحلول من شأنها أن تشكل عوامل ضغط شديدة على القاعدة السياسية المشتركة لحكومة التطرف اليميني في إسرائيل.
أغلب الظن أن الحكومة الإسرائيلية تعد العدة «لهجوم» سياسي كبير ولكنه حذر جداً في هذه المرحلة لمواجهة «أخطار» من هذا النوع على الرغم من صعوبة فتح معركة سياسية مباشرة مع الإدارة الأميركية الجديدة.
أما القيادة الفلسطينية فإنها تعد العدة، أيضاً، لمواجهة «أخطار» الضغوط الأميركية المتوقعة باتجاه إعادة مرحلة الحل أو عدم إنجاز الصفقة دفعة واحدة، وهو الأمر الذي سيعني بالنسبة للرئيس عباس القبول عملياً بالحدود المؤقتة، في حين أن أقصى ما يمكن أن يوافق عليه الرئيس هو التسليم بالحقوق أولاً ومن ثم جدولة التنفيذ حتى لو أن الفترة أصبحت أكثر من عامين أو ثلاثة، وهنا تكمن المشكلة الكبرى.
أنْ تسلم الولايات المتحدة بهذه الحقوق وتلزم إسرائيل بها مقابل إطالة فترة الجدول الزمني وربط هذا الجدول ربما بالتعاون الإقليمي ربما تكون مساحة يمكن أن يناور بها الرئيس عباس. لكن هذه المساحة ليست كافية لمناورة رئيس الوزراء الإسرائيلي، مع أن الدول العربية في أغلب الظن ستكون مع هذا التوجه.
هنا سنكون أمام وضع حرج. نحن سنقدم تنازلاً كبيراً حول الجدول، وإسرائيل عليها أن تقدم تنازلاً أكبر حول التسليم بالحقوق.
ليس واضحاً بعد فيما إذا كان القبول الفلسطيني بهكذا صفقة يمكن أن يقذف الكرة في الملعب الإسرائيلي، بحيث يخرج الرئيس الفلسطيني «سالماً» من هذه المعركة، لكن المؤكد أن القيادة الفلسطينية لديها الخبرة والحنكة للخروج من هذا النوع.
وليس واضحاً فيما إذا كان نتنياهو سيتمكن من تسويق صفقة من هذا النوع على زملائه من غلاة التطرف القومي والديني في إسرائيل، لكننا نعرف قدراته الهائلة على المراوغة وعلى اللعب بالألفاظ وافتعال الأزمات.
زيارة الرئيس عباس إلى واشنطن ستنقل المعركة من العاصمة الأميركية واشنطن إلى تل أبيب ورام الله منذ اللحظات الأولى لهذه الزيارة، وهنا ستكون المعركة معركة صراع إرادات وحنكة ودهاء وقدرة على قذف الكرة في ملعب الطرف المقابل.
الموقف العربي هو نقطة قوة للرئيس الفلسطيني حتى الآن، ولكن الرئيس ترامب لديه قدرات كبيرة على التأثير في هذا الموقف، وقد لا يظل الموقف العربي على نفس درجة الدعم والإسناد الذي يتمنّاه الرئيس أبو مازن.
ولكن وفي مطلق الأحوال فإن ثبات مواقف الرئيس الفلسطيني ستصعب كثيراً من أية تراجعات كبيرة في المواقف العربية وستعطي للرئيس الفلسطيني القدرة الكافية على المناورة.
نحن أمام معركة كبيرة ويجب أن لا تداهمنا الأحداث ولا المواقف.
فالإدارة الأميركية ستركز جهودها على الاقتصاد والأمن، في حين يريد الرئيس عباس أن تتركز الجهود الأساسية على الشرعية الدولية وعلى الحقوق الوطنية، أما إسرائيل فستحاول نقل النقاش كله الى ملفات هامشية وثانوية لكي تتهرب من الاستحقاق السياسي.
عنوان النجاح في زيارة الرئيس هو فيما إذا تحولت القضية أولاً، وقبل كل شيء إلى حقوق الشعب الفلسطيني وشرعية هذه الحقوق وتحديدها وفق القانون الدولي، لأن النجاح هنا هو نجاح كبير.
وعنوان الفشل إذا «تم» تغييب هذه الحقوق أو الاستعاضة عن جوهرها بالحديث المعمم عنها و»تم» الانتقال إلى ملفات الأمن والاقتصاد أو ملفات فرعية تفتعلها إسرائيل.
هذا هو المقياس وليس أي شيء آخر، أما إذا أردنا ان نتحدث بصراحة عن هذه الزيارة فإننا نقول بأنها الزيارة الأهم التي ستحدد معالم المرحلة القادمة ليس فقط بالنسبة لنا وإنما بالنسبة لكل منطقة الإقليم.
"ولكن سبحانك، حتى الطير لها أوطان"
27 سبتمبر 2024