تقوم فكرة المقال على أساس فرضيتين، الأولى: أن اليهود الإسرائيليين ليسوا كتلة صمّاء واحدة متجانسة، وأن الإستراتيجية الصهيونية والفكر السياسي الإسرائيلي لم يكونا نتاج مؤامرة مرسومة بدقة، وبالتالي ما جرى ويجري منذ قيام الدولة العبرية حتى الآن من توسع واستيطان وحروب وسياسات خارجية ليس تنفيذاً حرفياً لهذه المؤامرة. بل إن هذا الفكر تغيّر وتطور غير مرة، بين مدّ وجزر، وكان دوما يتأثر بجملة من الظروف الذاتية والمحيطة، وكانت تلك التغيّرات على مستوى من العمق والتأثير لدرجة توجب الدراسة.. والأهم أنها كان ممكنا أن تتخذ مسارات أخرى مختلفة كليا. والثانية: أن إسرائيل (الدولة والمجتمع) ليست بتلك الصورة النموذجية التي يتخيلها البعض، سواء من تفترسهم نظرية المؤامرة، ويبنون تحليلاتهم بناءً عليها، أم أولئك الذين يعتبرونها نموذجاً للدولة الحديثة الناجحة، أو حتى الذين يعتبرونها شراً مطلقاً. وهي مثل أي مجتمع آخر؛ يعتريها الكثير من نقاط الضعف، وتتفاعل في داخلها تناقضات شديدة، وفيها من مظاهر الفساد ما هو أكثر مما ينشر في الإعلام بين فينة وأخرى.. دون التقليل من قوتها وحُسن تنظيمها.
ومثل أي مجتمع متنوع، ويعيش حياة حزبية و"ديمقراطية"، نشأ فيه تياران رئيسان: يميني ويساري، وعلى جنبيهما وفي الوسط تشكلت أحزاب وكتل سياسية مختلفة. ولفترة طويلة، هيمن حزبان كبيران على الحياة السياسية (العمل والليكود)، وتداولا السلطة غير مرة.. مؤخراً، تراجع هذان الحزبان، ولم يعد بوسع أي منهما الحصول على أغلبية في الكنيست، ونشأت على أنقاضهما أحزاب جديدة، وطرأت متغيّرات عميقة على الساحة السياسية، وفي بنية المجتمع.
في هذه المقالة، سنركز على اليسار الإسرائيلي، كيف كان؟ وأين انتهى به المطاف؟ ولماذا؟ وقبل ذلك، يجب التنويه بأن تصنيف الأحزاب الإسرائيلية إلى يسار ويمين تصنيف مضلل؛ فعلى صعيد السياسات الاجتماعية الاقتصادية، نجد أن أحزاب اليسار وبخلاف كل الأحزاب اليسارية في العالم تدافع عن اقتصاديات السوق والخصخصة، وتعمل على تقليص مخصصات الرفاه الاجتماعي، أما في الجانب السياسي فلا يختلف اليمين واليسار في تعاطيهما مع مسألة السلام مع الفلسطينيين والعرب، فهما وجهان لعملة واحدة.
ومع ذلك، من الخطأ تجاهل الفروقات بين المعسكرين، لاسيما وأنها تؤثر بشكل كبير على هوية الدولة ومستقبلها، وعلى حياة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وعلى احتمالات ومسارات التسوية السياسية.
كما يجب التفريق بين "اليسار" الذي أسس دولة إسرائيل، وقاد أهم معاركها، والذي مثّله تاريخياً حزب العمل (ماباي)، وبين القوى اليسارية التي ما زالت على هامش المجتمع الإسرائيلي.. ذلك "اليسار" الذي حكم إسرائيل منذ نشأتها وحتى مجيء الليكود 1977، كان ذا دور وظيفي، أكثر مما كان تيارا فكريا، تمثل دوره بتجميل صورة إسرائيل، أمام الرأي العام الدولي، بما في ذلك يهود العالم، من خلال المزج بين النظام الكيبوتسي والهستدروتي، والادعاء بأن إسرائيل تنتمي للعالم الاشتراكي، والعمل على ترسيخ الاحتلال، وتبرير سياساته الكولونيالية والتوسعية، وتقريبها "ديماغوجياً" من فكر اليسار العالمي، إضافة للعمل على جذب المهاجرين اليهود والمناصرين لإسرائيل من الدول الاشتراكية والشيوعية.
وقد تم تصنيف حزب العمل في خانة اليسار لأنه نادى بالصهيونية الاشتراكية، (وهو عضو في الاشتراكية الدولية) مع أنه المسؤول الأول عن النكبة والنكسة، وهو الأب الروحي للمستوطنات، وبالرغم من خطاب السلام الذي يدعيه إلا أن ممارساته دوما ضد السلام، وبهذا لا يختلف عن اليمين الصهيوني الذي ينادي بأرض إسرائيل الكبرى.
وحتى ذلك الوقت؛ أي بداية التحول لليمين، كان حزب العمل وحلفاؤه امتداداً طبيعياً للحركة الصهيونية (التي بدأت علمانية/قومية)، وتنفيذاً أمينا لفكرها التوسعي الاستعماري.. وبعد حرب تشرين، والتي أحدثت مفاجأة صادمة في الوعي الإسرائيلي، حمّل الإعلام مسؤولية الهزيمة للحزب الحاكم، ما فتح المجال لحزب الليكود ليعوض الخسارة النفسية التي تسبب بها حزب العمل، وكانت تلك بداية التغيير.. بعدها أخذ اليسار بالتراجع تدريجياً، إلى أن دخل غرفة الإنعاش، ويكاد اليوم يلفظ أنفاسه الأخيرة.
في دراسة موسعة للباحث توفيق أبو شومر (شؤون فلسطينية، العدد 256)، بعنوان خطط تفكيك اليسار الإسرائيلي حتى العام 2017، اعتبر أن اليسار الإسرائيلي الحقيقي يتمثل حالياً في القوى الآتية:
يأتي في أقصى اليسار تيار "المؤرخين الجدد"، الذي انبثق فجأة من أرشيف إسرائيل، ويعتمد هذا التيارُ على مبدأ البحث في الملفات التي جرى الإفراج عنها مؤخرا، حيث شرعَ عددٌ كبيرٌ من هؤلاء اليساريين في إعادة اكتشاف الحقيقة، وعثروا على كثيرٍ من الحقائق، وهؤلاء يمثلون تيار ما بعد الصهيونية، هذا التيار الذي نشأ كرد فعل على مقولة "إسرائيل دولة يهودية"، يدعو لإعادة تفكيك المجتمع الإسرائيلي كجزء من الحداثة العالمية، بما يعني دحر العقيدة الصهيونية، وكشف الستار عن خبايا القضية الفلسطينية، المسكوت عنها، وفي الإطار ظهرت حركة يسارية أسسها "أوريل هالبرين"؛ هي حركة الكنعانيين، وهم الذين رفضوا هُويتهم اليهودية، وغيروها بالكنعانية التي تضم المسلمين، والمسيحيين، واليهود، وكل الطوائف الأخرى.
ويرى أبو شومر أن أبرز مراكز اليسار حالياً تمثله ثلاثُ جامعات، هي: جامعة حيفا، وتل أبيب، وبن غوريون، تأتي بعدها الأحزابُ السياسية، وعلى رأسها حزب ميرتس، وبعض منتسبي حزب العمل، والقائمة المشتركة (المكونة من مجموع الأحزاب العربية، وأبرزها الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة كإطار يضم قوى عربية ويهودية شيوعية)، وبعض اليساريين الإسرائيليين الوسطيين، ممن فضلوا الانضمام إلى حزب "هناك مستقبل"، بزعامة يائير لابيد.
ويضع أبو شومر في المرتبة الثالثة الجمعياتُ غير الحكومية، مثل جمعية، جنود يكسرون الصمت، وحركة السلام الآن، وجمعية بيتسيلم، وييش دين، وعير عميم، وزخروت، ونيو بروفايل، وجنود يرفضون الخدمة العسكرية، وغيرها من الجمعيات المحسوبة على اليسار.
أما في المرتبة الرابعة فيضع الإعلامُ والأدبُ والثقافة، وعلى رأس وسائل الإعلام تأتي صحيفة هآرتس، (والقناة العاشرة) وبعض الكتّاب والمؤرخين العلميين والفنانين التقدميين.
هذه المراكز اليسارية ظلت تشكل كابوساً لدى اليمين المتطرف، وكان لا بد أن تقوم المؤسسة السياسية والثقافية المكارثية بوضع الخطط لتحجيم دورها، تمهيداً لإقصائها، وإسكاتها إلى الأبد، وهو الموضوع الذي سنعالجه في مقالة قادمة.