رغم غموض وارتباك وفوضى السياسة الأميركية الجديدة في عهد إدارة ترامب إلاّ أن الثابت الأكثر وضوحاً في هذه السياسة، يتمثل في إقدام الإدارة الجديدة على هدم كل تعبيرات السياسة الأميركية الداخلية والخارجية للإدارة السابقة للرئيس اوباما، شهدنا ذلك بمراسيم ترامب حول الهجرة وقانون «الرعاية الصحية» والذي نجح في تمريره في مجلس النواب مؤخراً، رغم أن هناك إشارات على صعوبة تمريره في مجلس الشيوخ، في السياسة الخارجية، علاقات مرتبكة مع روسيا، اقتراب من الصين وفتح ملف كوريا الشمالية، إلاّ أن الملف الأكثر وضوحاً في سياسة «هدم» ما تبنته إدارة اوباما، يتعلق بقضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فقد تراجعت إدارة ترامب عن حل الدولتين باعتباره جوهر الحراك السياسي لتسوية هذا الصراع، وبحيث بات هذا الحل أحد الحلول، مع أن الإدارة الجديدة، لم تكشف عن تلك الحلول الأخرى، إلاّ أن الجهد الأساسي والجوهري في الحراك السياسي الأميركي في عهد ترامب، أولى أهمية بالغة للغاية، بقضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، مترجماً هذا الجهد بعقده لقاءات قمة مع معظم الزعماء العرب الفاعلين في هذه القضية، الأردن ومصر والسعودية، وبالتأكيد إسرائيل، وأول زيارة للرئيس ترامب خارج بلاده ستكون للمنطقة، وهو الذي بالكاد غادر مكتبه في البيت الأبيض طوال الأشهر الماضية، إلاّ أن جوهر هذه اللقاءات والسياسات، تمثل في القمة الفلسطينية ـ الأميركية الأولى في عهد ترامب، وعقد قمة أكيدة قبل نهاية الشهر الجاري في بيت لحم، بدعوة من الرئيس عباس لنظيره الأميركي، وربما توقف البعض عند هذا الاحتفاء والترحيب المشهود الذي عبر عنه الرئيس ترامب لنظيره الفلسطيني في البيت الأبيض، كشكل من أشكال ترجمة البروتوكول إلى إمكانيات ذات طبيعة سياسية أكثر احتمالاً!
إلاّ أن إدارة ترامب، مع كل هذا التناقض مع إدارة اوباما السابقة، يبدو أنها ظلت متمسكة «بالحل الاقتصادي» تمهيداً لإزالة بعض العقبات من أمام الحل السياسي، بالتوازي مع موقف جديد وضاغط من قبل ترامب على العملية الاستيطانية الإسرائيلية، إذ وبعد القمة الفلسطينية ـ الأميركية الأولى، اجتمع نتنياهو مع أركان حكومته لإبلاغهم أنه سيستجيب لطلب الرئيس ترامب الجديد، بضرورة أن تقدم إسرائيل على خطوات وتسهيلات اقتصادية للجانب الفلسطيني، بهدف إظهار حسن النية، وحسب «هآرتس» فإن هذه الخطوات قد تترجم بإصدار تراخيص بناء للفلسطينيين في المنطقة «سي» التي تقع تحت السيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية، في حين أشارت مصادر إعلامية وبحثية أميركية (ديفيد ماكوفسكي ـ معهد واشنطن) على أن الزيارتين اللتين قام بها المبعوث الرئاسي الأميركي جيسون غرينبلات إلى المنطقة، انطوتا على أهمية توسيع فرص التنمية الاقتصادية للسلطة الفلسطينية، كما تشير تقارير مؤكدة، وخلافاً لبعض التوقعات، إلى أن إدارة ترامب لا تنوي خفض المساعدات الممنوحة للسلطة الفلسطينية، بل قد تزيدها قليلاً، رغم ما يقال من أن إدارة ترامب ستجري تعديلاً وتقليصاً على المساعدات الخارجية بشكل عام لدى طرح ميزانيتها الجديدة!
ورغم أن هذه الإشارات لا يمكن البناء عليها وحدها، لكي تمهد للاختراق الذي تحدث عنه «ترامب» في إطار الحراك الأميركي لتسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، إلاّ أن تجاوب قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية، الرئيس أبو مازن تحديداً مع هذه الإشارات كان أكثر وضوحاً، عندما أشار إلى أن السلطة جاهزة لإرسال وفد فلسطيني إلى واشنطن، ومع أننا لا نعلم لماذا هذا الوفد، إلاّ انه يتوازى مع إعلان الرئيس عباس استعداده للقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو برعاية ومشاركة الرئيس ترامب، وعليه، هناك احتمال كبير، في أن تعقد مثل هذه القمة في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري، إذ إن جدول أعمال زيارة ترامب لكل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية، تضمن عودة ثانية إلى إسرائيل بعد قمة بيت لحم بين الرئيسين أبو مازن وترامب، ما يشير إلى مثل هذه الإمكانية، وعلى الأرجح فإن إشارة أبو مازن إلى جاهزية إرسال وفد فلسطيني إلى واشنطن، قد تهدف إلى وضع اللمسات الضرورية لعقد مثل هذه القمة الثلاثية!
ومن الملاحظ أن إدارة ترامب وضعت مسألة نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة على الرف، ربما إلى حين أن تعود هذه المسألة للبروز في ظل «الصفقة» التي يتم الحديث عنها، ومن المفترض أن يلجأ ترامب إلى توقيع وثيقة تأجيل نقل السفارة، وفقاً للقانون الأميركي، مع بداية حزيران القادم، وهو موعد مثل هذا الأمر، بينما يكون قد أنهى زياراته واجتماعاته في المنطقة وبحيث يكون أكثر إلماماً بطبيعة الحراك القادم على ضوء مخرجات هذه اللقاءات والاجتماعات، وهكذا يبدو ترامب وكأنه لا يميل ميلاً تاماً ونهائياً لتلبية الاشتراطات الإسرائيلية، بما يمكنه ـ حسب اعتقاده على الأقل ـ من أن يشكل وسيطاً صالحاً للعب دور في الاختراق الصعب.
وباعتقادنا أن المتغير الأساسي في سياسة ترامب حول المسألة التفاوضية على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، يتعلق بالبعد العربي لهذه السياسة، خلافاً لما جرى الأمر عليه في عهد إدارتي اوباما، إذ أن التغطية العربية لهذا الملف باتت أمراً ضرورياً يعمل عليه ترامب بشكل جدّي من خلال سلسلة القمم التي تمت لهذا الغرض؟!
بالصور.. ثلاثية توتنهام تعمق جراح مانشستر يونايتد
30 سبتمبر 2024