كتب د.أحمد يوسف القيادي البارز في حركة حماس، وصاحب المواقف المميزة، مقالاً يمكن وفه بالأكثر جرأة عندما طالب حركة حماس الاعتذار عما حدث عام 2007، واشار في موقف نقدي نادر الى حدوث أخطاء شابت العملية الانتخابية الداخلية، وجاء في المقال الذي جاء تحت عنوان "أخي خالد مشعل يا أبا الوليد..ستبقى الكبير الذي عرفناه":
ونحن نعيش لحظات انتهاء الانتخابات التنظيمية لحركة حماس، واختيار الأخ إسماعيل هنية (أبو العبد) خلفاً للأخ خالد مشعل في قيادة المكتب السياسي للحركة على مستوى الداخل والخارج، فإننا ونحن نسجل بعض كلمات الوداع للأخ الذي عملنا معه وعرفناه، فإننا نتمنى للقائد الجديد وإخوانه في اللجنة التنفيذية والمجالس الشورية استكمال ما بناه السابقون من تاريخ ومجد، وخاصة الأخوين موسى أبو مرزوق وخالد مشعل، واللذين قادا الحركة منذ تأسيس مكتبها السياسي عام 1992 وحتى الآن، وشكلَّ كلُّ واحد منهما ملامح بصمته على مرحلة تاريخية معينة، هي شاهدة له بكل ما فيها من مواقف وإنجازات، إلا أن المكانة التي بلغتها حركة حماس في هذا المشوار الحركي والنضالي، والذي استمر لثلاثة عقود حتى اللحظة، يشي بأننا كنا أمام قيادتين يحق لنا الفخر والاعتزاز بهما وبكل ما تركاه من أثر.
الأسابيع القادمة ستشهد تحركات نشطة على مستوى توزيع المهام والمواقع القيادية الحركية، وترتيب البيت الداخلي لحركة حماس، وترميم للكثير من علاقاتها الإقليمية والدولية، خاصة في ضوء الرؤية والبرنامج السياسي الجديدة، والذي توافقت على بنوده كل قطاعات الحركة في داخل الوطن وخارجه، وغدت منذ إطلاقها في الدوحة ملزمة للجميع كخارطة طريق للتحرك في المرحلة القادمة.
إن مسيرة الحركة خلال الثلاثين سنة الماضية كانت تحكم تدرجات تقدمها الكثير من حكمة الرجال وهمَّتها، ولكنها لم تخلُ من الأخطاء وسوء تقدير المواقف من حين لآخر، ولعل أكثر ما يمكننا التصريح به هو أننا لم نستثمر حرص الرئيس ياسر عرفات أن نكون إلى جانبه بعد عودته إلى قطاع غزة في عام 1994، ودخلنا في مناكفة معه كان بالإمكان تأجيلها بعض الوقت، والاستثمار في طيبته ووطنيته وحبه لشعبه لنشد من أزره، ونقطع الطريق أمام من حاصروه من البطانة السيئة التي أوغلت صدره، وأدخلتنا في متاهات الصراع مبكراً مع إخواننا في حركة فتح، فكانت الملاحقات والاعتقالات والتعذيب عام 1996، والذي طال الكثير من كوادر وقيادات الحركة، وأثرَّ فيما بعد على المواقف والسياسات التي حكمت علاقاتنا تجاه بعضنا البعض.
كان المشهد الثاني الذي خسرنا فيه الكثير، مما كان يمكننا البناء عليه لتأسيس شراكة سياسية، ومنظومة حكم جديدة، هو الأحداث المأساوية، التي وقعت في يونية 2007، والتي كانت تداعياتها كارثية، وما زلنا كحالة فلسطينية سياسية ندفع ثمنها حتى الآن.
لولا هذان الشرخان، وعمق الجرح الذي أعقبهما، ونزفه الذي لم يتوقف رغم محاولات الأخ خالد (أبو الوليد) تقديم الكثير من المواقف السياسية والتعبيرات الإيجابية تجاه السلطة والرئيس أبو مازن، إلا أن كل المحاولات ما تزال تظلع مكانها، ولم نصل بعد إلى ما يمكننا من خلاله تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، وطي صفحة الماضي وجمع الصف الفلسطيني بمختلف مشاربه الدينية والوطنية.. صحيحٌ، هناك في ساحتنا الفلسطينية توجهات وأيدولوجيات متباينة فكرياً، ولكن ليس من الصعب انصهارها في بوتقة المشروع الوطني، وفي إطار الرؤية التي صاغتها وثيقة الوفاق عام 2006.
اليوم، وبعد أن قام الأخ الكبير خالد مشعل بعرض برنامج حركة حماس، من خلال "وثيقة المبادئ والسياسات العامة" الجديدة، والتي رسمت ملامح التحرك والرؤية للسنوات القادمة، وهي - إذا صدق عزم الجميع - من المفترض أن تهيئ لنا الطريق كي نصل لبعضنا البعض، ونعجل بإنهاء حالة القطيعة القائمة بيننا، والدخول في علاقاتنا الإقليمية والدولية من باب واحد، بدل تلك الأبواب المتفرقة ووضعية التشرذم، لحماية مشروعنا الوطني الذي يمثل حالة التوافق والإجماع لنا جميعاً.
اليوم يا أبا الوليد ونحن نخاطبك بهذه الكلمات قبل مشهد الوداع الرسمي، فإنما نأمل منك أن توصي خليفتك الجديد الأخ إسماعيل (أبو العبد) بما تراكم عندك من رصيد التجربة والخبرة في عالم السياسة ودهاليزها الحركية والأخلاقية ومعنى أن الوطن فوق الجميع، وأننا جميعاً كفلسطينيين يداً على من عادانا، وأن سلاحنا الذي أخطأ مرة عنوان المعركة عليه ألا يعود وأن يعتذر، وأن عقيدتنا الأمنية هي أننا لعدونا وعدو أمتنا قاهرون.
إن حركة حماس التي تمثل مفخرة عزٍّ لأمتنا العربية والإسلامية يجب أن تقر وتعترف بأن ما وقع عام 2007 من مواجهات مسلحة كان خطأ يتحمل مسئوليته الجميع؛ الكل الوطني والإسلامي، وأننا يجب أن نعتذر لشعبنا الفلسطيني الذي خذلناه، وهو اليوم الضحية لصراعنا السياسي، وهذا الانقسام البغيض.
لقد أكبرناك يا أبا الوليد يوم خرجت وقلت "لقد أخطأنا"، ووضعت النقاط على الحروف. إن ما قلته لم ينقص من عظمة حركة حماس شيئاً، ولم يقلل من تضحيات رجالها وإنجازاتهم البطولية، فحركة حماس ما تزال هي أيقونة الكرامة لشعبنا وأمتنا، وكتائب القسَّام هي مثار إعجاب ومصدر ثقة لنا واعتزاز إذا حمي الوطيس مع الأعداء.
أخي أبا الوليد أنت في نظري ذلك الفتى الذي عرفته في بداية الثمانينيات، الممتلئ حماسة ووطنية وأخلاقاً وكرامة إنسانية، واستمرت السنوات تتطور فيها رؤيتنا ولقاءاتنا، وتكبر معها أحلامنا في بناء حركة وطنية/إسلامية تحقق تطلعات شعبنا في التحرير والعودة. في ذلك الوقت من الثمانينيات والتسعينيات، لم تكن المواقع القيادية هدفاً لأحد منا، وكانت هناك الكثير من الوجوه التي لا تقل حيوية وحماسة عنا، أسماءٌ كثيرة مرت بعضها أخذ حظه من القيادة والزعامة والشهرة، وبعضهم ما زال يعمل بعيداً في الظل بكل إخلاص وحماسٍ ووطنية، ولكنه لم يفقد البوصلة فما تزال مقلتاه ترنو إلى الأقصى وبيت المقدس.
لن أنسى أخي د. موسى أبو مرزوق الذي عاش القضية والهمُّ الوطني بكل عقله وجوارحه، ودفع بعضاً من سنوات عمره داخل السجون الأمريكية للنهوض بحركته، وكان كالطود شامخاً وصابراً وحافظاً للعهد والمسيرة، وظل مرابطاً على الثغور لم يتخلف يوماً عن مسئولياته النضالية برغم كل الذي الأذى الذي أصابه، والمكر الذي لحق به.
ستظل أخي أبا الوليد بطيبتك وأخلاقك وابتسامتك التي جمعتنا سنين، الأخ الذي نتذكره ونتذاكر مواقفه، ونحفظ له الكثير من المشاهد التي حكمت مظاهر تعاملاته مع الجميع، لتحافظ على هذه الحركة العظيمة وتحميها من عاديات الخصوم وغوائل الزمن.
نعم؛ عشرون عاماً كنت فيها أخي أبا الوليد حادي الركب، وكان بيدك زمام القيادة والتوجيه، وكبرت بك ومعك حركة حماس وكتائب القسَّام، وسجلنا بك ومعك الكثيرون من إخوانك ما اعتبرناه انتصاراً على الأعداء، حتى خروجك من دمشق والنجاة بالحركة والابتعاد بها عن التورط بدماء إخواننا السوريين، كانت حكمة تحسب لك ولإخوانك في قيادة حماس، وإن جرَّت عليك وعلينا غضب من نحب من إخواننا العرب والعجم.
لقد كنت تتحرك يا أبا الوليد وسط حقل من الألغام والتناقضات الأمنية والسياسية العربية والإسلامية، ولكنك نجحت في الوصول بنا لما يحب ربنا ويرضى من بناء هذا الصرح الشامخ لحركة المقاومة الإسلامية، فلم نكن يوماً في جيب أحد، بل حرصنا من خلالك أن نكون عند حسن ظن الجميع بنا؛ شعبنا وأمتنا، التي وضعت قضيتنا في صدارة اهتماماتها، ولم تبخل علينا في التضحية والعطاء.
مسئوليات جسام بانتظارك يا أبا الوليد، ولا يكفي أنك رسمت معالم الطريق، وأوضحت خارطتها لقادم السنين، فأنت رجل يمتلك الكاريزما والحكمة ولك دالة على الكثيرين من رموز وقيادات هذه الحركة في الوطن والشتات، ونحن اليوم كحركة وطنية/إسلامية تتناوشنا بعض رياح الخلاف، وهي تحتاج - الآن - جهدك وحكمتك لإصلاح ذات البين، والعمل على تمتين الصف وشدِّ أركان البنيان، ونحن ننتظر أيضاً من القيادة الجديدة ومن الأخ إسماعيل هنية ألا تغطي الشمس بغربال التجاهل والانكار، حيث علينا أن نفكر جدياً بثلاث قضايا نطرق اليوم بها جدار الخزان؛ وهي أولاً الحزب السياسي، الذي غدا ضرورة ومطلباً وسيسمح لنا من خلال هذه الوثيقة الجديدة التحرك اقليمياً ودولياً بشكل أفضل، للحفاظ على ما أنجزناه كحركة وطنية/إسلامية. والثاني؛ وهو ضرورة الفصل بين العمل الدعوي والعسكري، حيث إن الأول يتطلب التوسع والانتشار وبناء الحاضنة الشعبية، فيما الثاني وهو العمل العسكري يحتاج إلى السرية والانضباط والنخبة وليس كل من هبَّ ودبَّ.
إذا تحقق ذلك، فلسنا بصدد فتح الحديث عن اللوائح والقوانين الناظمة للعملية الانتخابية، والتي لم تكن عملية إجرائها في هذه الدورة موفقة في بعض المناطق، وتركت ندوباً سوداء على ما اعتبرناه دوماً أطهر ما فينا وهو النزاهة والشفافية والأخلاق، وأننا ننظر للمناصب كمغرمٍ وليس بمغنم، وأننا لم نتعود في حراكنا التنظيمي تزكية أنفسنا، بل نتسابق على الموت والشهادة في سبيل الله والوطن.
وإذا لم يتحقق ما نطالب به، فإننا ننتظر منك أخي أبا الوليد وبعض أركان هذه الحركة العتيدة وممن نعتبرهم من "عظام الرقبة" تولي عملية الإصلاح، وإجراء التغييرات المطلوبة لتصويب العملية الانتخابية، حتى لا يقع مستقبلاً ما لا يحمد عقباه.
نقطة أخيرة، لقد كنت أشرت قبل عامٍ تقريباً ما كنت أراه – آنذاك - ضرورة تنظيمية، وهي أن الحركة بحاجة إلى اختيار أمين عامٍ لها من قياداتها المخضرمين بصلاحيات تمكنه في ضبط الإيقاع داخل هذه الحركة واسعة الانتشار، ويكون في موقعه ذلك بمثابة بيضة القبان لها.. هذا الاقتراح ما زلت أطرحه للنقاش، كما أرشح له حالياً أحد الأخوين السيد خالد مشعل والدكتور موسى أبو مرزوق؛ لاعتبارات التوازن والحكمة.
ختاماً يا أبا الوليد... فأنت اليوم ترتب أوراق خليفتك وتستعد للانتقال إلى موقعك الجديد في العمل، لم يحن الوقت بعد كي أقول لك وداعاً، وإن كنت أعلم أنك تتهيأ لهذه اللحظة منذ عدة سنين.. لذا، بالنسبة لي لم يأت بعد وقت الإشادة والغزل، فالخيِّرون أمثالك سيبقون دائماً حاضرين، وستظل مآثرهم تفوح بالمواقف والإنجازات والذكر الحسن.
مع تمنياتنا للقيادة الجديدة والأخ إسماعيل هنية بالتوفيق والسداد.