سجون ومعتقلات

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

في رائعة الراحل محمد القيسي والتي حملت عنوانا غريبا: «الهواء المقنع»، جسّد الشاعر قصة القائد الفلسطيني «أبو علي شاهين» في المعتقلات الإسرائيلية على امتداد خمسة عشر عاما، ووصف معاناته وصموده التي مثّلت رمزاً لآلام وتضحيات كل الأسرى الفلسطينيين.
وقد ظلت الصورة التي جسدها «شاهين» ورفاقه الأسرى ماثلة في مخيلتي، إلى أن أتيحت لي فرصة الاستماع لتفاصيل التجربة القاسية من صاحبها، وعرفت حينها معنى «الهواء المقنع»؛ إذ قادت غطرسة وعنجهية الاحتلال إلى وضع الأسرى في معتقل «نفحة» الصحراوي، الذي لا تتوفر فيه أبسط الحاجات البشرية، وهي الهواء، ما كان يدفع بالأسرى للانبطاح أرضا والالتصاق ببلاط السجن (خصوصا وقت الظهيرة عند ارتفاع درجات الحرارة إلى حد اللامعقول) بهدف التقاط الأوكسجين الذي يظل قريبا من سطح الأرض بسبب كثافته، ولنا أن نتخيل معاناة الأسير عندما يعـزُّ الأوكسجين ويصبح التقاطه عملية تتطلب الكثير من المشقة والضنك.
كتب وروايات عديدة ظهرت في العقود الماضية تناولت قضية السجون والمعتقلات، ليس فقط في سجون الاحتلال بل أينما كانت هناك معاناة وقهر، ولعل من أهمها وأفظعها معاناة سجين سياسي في أحد السجون العربية جسّدها الراحل «عبد الرحمن منيف» في روايته «الآن·· هنا»، والتي تعتبر نسخة مطولة لروايته السابقة «شرق المتوسط»، وفي كلتا الروايتين صوّر «منيف» مشاهد مرعبة ومقززة للسجون السياسية في عالمنا العربي.
وعن هذه الرواية كتب الأديب سعد الله ونوس: «حين فرغتُ من الرواية، أحسست حلقي جافاً وغمرني شعور مذهل بالعار».
ولكن الشعور بالصدمة يتولد عندما تقرأ رواية حقيقية تجسد قصة واقعية لأحد الناجين من المعتقلات، بأشخاصها وأحداثها وزمانها، فتعيش في أجوائها المرعبة، وتتخيل أن كل سطر فيها يعادل سوطا على جِلد كاتبها، ومع نهاية كل فصل يكون بطل الرواية أو أحد رفاقه قد خسر نتفا من لحمه على جدران السجن، بالمعنى الحقيقي لا المجازي للكلمة، كما فعلت الكاتبة المغربية «مليكة أوفقير» في رواية «السجينة»، التي روت فيها قصة عقدين من الألم والعذاب لأسرتها في سجون النظام (الأم مع ستة من أطفالها، أكبرهم في التاسعة عشرة، وأصغرهم سنتان).
أما الفاجعة الكبرى والمفاجآت الصادمة فقد دوّنها المخرج السوري «مصطفى خليفة» في يومياته التي عاشها في السجون السورية لمدة ثلاثة عشر عاما دون أن يعرف تهمته، والتي حملت عنوان «القوقعة»، سَرَد فيها ما جرى معه من أحداث حقيقية بأدق تفاصيلها الواقعية، ووصف واقعا أليما ظل مجهولا لعموم الناس يتجاوز ببشاعته وخسته كل ما خطر على بال الشيطان، من خيال مريض ومن حقد دفين عبّر عنه سجانو النظام وشبيحته في عقد الثمانينيات تجاه خصومهم السياسيين في مرحلة من أسوأ المراحل التي شهدتها سورية، منذ أن زرعت بيوت دمشق ورد الجوري قبل آلاف السنين، وحتى تتخلص من آخر جلاوزتها وتعود دولة طبيعية تحترم آدمية الإنسان.
ولعل من بين أشد القصص التي رواها قسوة؛ قصة الأب الذي أعدمت السلطات أولاده الثلاثة أمامه، حيث إن سابقة اعتقال الأسرة بكاملها تتكرر على نحو أكثر خسة في رواية «القوقعة»، ولكنها قصة تفطر القلب وتثير الغثيان، فقد اعتقلت السلطات شيخا سبعينيا مع أبنائه الثلاثة، ثم أعدمتهم أمامه ليشرب حسرتهم. 
إن ما جاء على لسان «شاهين» و»مليكة» و»خليفة» و»منيف» وغيرهم في رواياتهم عن واقع السجون وانتهاك الحريات واغتصاب آدمية الإنسان في السجون الإسرائيلية والعربية يعتبر شأناً عاما يمسّنا جميعا، فكل مواطن على امتداد الوطن العربي معرّض لأن يصبح يوما ما جزءاً من ذلك الواقع المرير البشع، طالما أمعن المجتمع في تجاهله وإنكاره وعدم مبالاته، فهذه الروايات لا تروي أحداثا جرت في كوكب آخر، وشخوصها ليسوا أشباحا، وإنما هم وبكل أسف جزء من الواقع الفلسطيني والعربي.
وهنا ليس مهما إجراء المقارنات بين سجون الاحتلال الإسرائيلي، وبين أي سجن آخر سواء في عالمنا العربي أم خارجه، فالإنسان هو الإنسان والسجان هو السجان، وبينهما حالة من العداء، وفي كل سجن هناك مئات القصص التي فيها من القسوة والمرارة الشيء الكثير، بحيث تصبح كل رواية منها مواجهة سياسية كاملة مع النظام، سواء أكان النظام احتلالا إسرائيليا يستولي على أراضي الغير، أم كان نظاما «وطنيا» يقسّم مساحة الوطن ويقطّعه إلى دوائر صغيرة، بعضها لمن هو مرغوب، والبعض الآخر لمن هو مرفوض. وويلٌ فيه للمرفوضين.
إذا كان في السجون الإسرائيلية نحو 6500 أسير فلسطيني، فهناك في سورية ضعف هذا العدد من المعتقلين الفلسطينيين، أغلبيتهم في سجون النظام، وبعضهم في سجون «المعارضة».. طبعا إلى جانب أعداد هائلة من المعتقلين السوريين. وأكثرهم لا يعرف أهاليهم أين هم، وهل هم أحياء أم أموات، في ظروف بالغة القسوة والسوء والمهانة..
وتظل الحقيقة أكثر قسوة من كل ما كُتب في الروايات، ولكنها تظل شاهدة على فظاعة السجن، وعلى فجور النظام العربي وانحطاط أخلاقه وغياب حقوق الإنسان فيه وامتهان كرامته، ودليلا على بشاعة المشهد داخل وخارج السجن، فهذا الكم الهائل من التعذيب والعذاب لم يحد من حالة التمرد، بل أخرج كل ما هو مرعب ومخيف: «العنف والعنف المضاد» الذي أصبح عنوان المرحلة وشيطانها، وجنونها العاصف الذي سيدمر كل شيء.
في السجن (أي سجن) تتجلى لحظات الصدام بين الإنسان وسجنه. وحيث يمثل السجن الصورة البشعة للاحتلال.. الذي يسعى لسلخ الأسير عن علاقته بالمكان والزمان اللذين كان ينتمي إليهما قبل أن تتصاعد عمليات خنقه وتغييبه؛ يصبح السجن امتحان الإنسان القاسي.. ويصير كل نَفَسٍ للسجين عبارة عن برنامج مقاومة، وتصبح كل ساعة يمضيها جهادا لمنع ذاكرته من النسيان، فيظل الأسير متحفزا في سعيه الدؤوب للخروج من هذا الاختناق، ومد جسور وجَعِهِ مع العالم، لكي يرى كل الناس جرحه النازف..
لذلك، فإن إضراب الأسرى الفلسطينيين، إنما هو كفاح عادل للحفاظ على إنسانيتهم، وتجسيد لحقيقة وجودهم ضد محاولات تغييبهم، هو الصمود الأسطوري لأرواحهم ضد محاولات صهرها وإذابتها، وضد محاولات السجان لتغيير ملامحها وتشويه محتواها الإنساني.. إضراب الأسرى أعلى درجات الشجاعة وأرقاها في كفاحنا نحو الحرية.