الفن والأدب في الإسلام السياسي

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

هل هناك أدب وفن إسلامي، يقابلهما أدب وفن غير إسلامي (كافر مثلاً)؟ يبدو مثل هذا التصنيف مربكا إلى حد كبير، ففي عصور الخلافة الإسلامية ظهر أدباء وفنانون وفلاسفة غير مسلمين، أو أن نتاجهم لم يكن إسلاميا خالصا.. كما ظهر في الدول غير المسلمة فنانون وأدباء إسلاميون.. ولفك الالتباس ينبغي تعريف مصطلحي «الفن والأدب» من جهة، و»الإسلامي» من جهة ثانية.. وتوضيح الحدود المشتركة بينهما..
أعتقد أن التراث الجمالي العالمي بكل نتاجه الأدبي والفني ملكية شائعة لبني البشر، شأنه شأن الدين والفلسفة والعلوم، وكل ما أنتجه العالم من أدب وفن وثقافة، هو حصيلة التجربة الإنسانية العامة، وليس لجهةٍ أن تدعيه لنفسها.. ورغم أن الحضارة الإسلامية كان لها إسهام واضح ومهم في إنضاج التجربة الإنسانية، إلا أن هذا الإسهام كان مجرد حلقة من سلسلة تاريخية تكاملت فيها تجارب الشعوب وتفاعلت فيها الحضارات، ومن هنا فإن عملية إلباس الأدب والفنون ثوبا إسلاميا ستكون مجرد عمل سياسي يفصح عن نوايا سياسية معينة.
على الرغم من اختلاف اللغات والأجناس الفنية والأدبية، إلا أنه لكل جنس منها خصوصيته وخصائصه التي تميزه عن غيره، في التعبير والاستعارة والمجازات، وتجعلها مختلفة عن بعضها في الأدوات والأساليب والعناصر؛ فللشعر مثلاً موسيقاه وإيقاعاته، وللرواية أحداثها وعقدتها وشخصياتها، وللمسرحية أشراطها الحوارية، وللسينما جاذبيتها الدرامية الخاصة، وللرسم أشكاله.. وهكذا، وهذه كلها فضلا عن كونها ميراثا إنسانيا مشتركا، فإنها أيضا لا تقبل التصنيفات الأيديولوجية والسياسية.. ولا تحتمل إضافة عنصر الدين مثلا كشرط لتقييم العمل الأدبي والفني مهنيا.
إلا أن جميع المدارس الأدبية والفنية هي في الواقع انعكاس لتيارات فكرية وسياسية معينة، لذلك، حاولت إيضاح جذورها الفكرية والفلسفية في أعمالها، وحوّلت تصوراتها الأيديولوجية إلى وقائع أسقطتها على القصيدة، أو الرواية، أو الفيلم، أو اللوحة.. وجعلت من شخصيات العمل الدرامي والفني نماذج معبرة عن المضامين الفلسفية التي تؤمن بها أو تروج لها.
وفي ذات السياق، ظهر ما يمكن تسميته الأدب الإسلامي؛ وهو الأدب الذي مرجعيته القرآن والسنَّة والفِكر الإسلامي ومناهجه وثقافته.
وبتحليل سريع لسمات هذا النوع الأدبي سنجده أدبا غائيّاً، هادفاً، ذا رسالة معينة، ملتزما بمرجعيته الدينية، أخلاقيا، وعظيا.. ولأنه خضع تاريخيا لتقييدات الفقهاء، ظل محليا، محدودا، يكاد يكون مقتصرا على الشعر والخطابة والرواية والزخرفة والخط، ولم يبدع في أجناس الأدب والفن الأخرى كالموسيقى، والغناء، والسينما، والرسم، والنحت، والتصوير، والأزياء، والمسرح.. وحتى الشعر والرواية كانت أقرب للنشرات السياسية، ومشبعة بالخطابة والإنشاء والشعارات واللغة المباشرة التي تفتقر للخيال.
وفي التاريخ الإسلامي، لم تزدهر الفلسفة والفنون والآداب والعلوم إلا بعد انتقال مركز الدولة الإسلامية إلى الحواضر (الشام، بغداد، القاهرة، الأندلس)، وبعد أن تراجعت قبضة السلطة على المثقفين، وتحديدا في عصر الإبداع والتنوير (العصر الذهبي للحضارة الإسلامية) الذي شهد نوعا من التعددية والتعايش بين المذاهب والتيارات الفكرية، وقبول الآخر.. وهي فترة للأسف قصيرة، سرعان ما انتهت بارتكاسة حضارية، بدأ بعدها عصر الفقهاء، والقمع السلطوي، الذي قُتل وصُلب وطُرد فيه كل مبدع اتهم بالزندقة والكفر، مثل «جعد بن درهم» و»ابن المقفع» و»بشار بن بُرد»، و»غيلان الدمشقي»، و»الحلاج»، و»ابن رشد» و»الطبري» و»الرازي»، و»الراوندي».. وحُرقت فيه كتب إخوان الصفا والمعتزلة والفلاسفة.
القرآن قمة البيان والبلاغة، وفيه صورة الأدب الخالدة، والإسلام لم يحرم الآداب والفنون، ولم يحاربهما، بل سعى لتطويرها؛ بيد أن الفقهاء كبّلوها بسلسلة من التحريمات والتقييدات، ما أوجد ما يشبه القطيعة بين الدين والإبداع، وعمّق التناقض بين الأدب والفن من جهة والدين من جهة ثانية، خاصة في ظل الإسلام السياسي.
وبمقاربة سريعة بين التصور الأدبي من جانب، والتصور الديني (السياسي) من جانب آخر سنلحظ تجليات هذا التناقض بينهما: الحقيقة في الأدب والفن غير ثابتة وغير واضحة وغير مطلقة، بل هي سؤال واستشراف وتشكيك، أما عند الإسلام السياسي فهي يقينية راسخة، تأتي على شكل جواب وتقرير وتعليم.
الأدب خيالي، محلق، حالم، مجنون أحيانا، متحرر من القيود والتابو ومن سطوة الكهنوت، بل يوجه ضرباته إليها وللأعراف السائدة.. ويكون أدبا جميلا وفنا مبدعا كلما كان كذلك.. الأدب يختنق في أية بيئة تتسم بالتشدد والانغلاق، أو تحكمها عقلية النص المقدس.
أما عند الإسلام السياسي فالأدب يظل مشدودا للماضي ومربوطا بأوتاد التاريخ، ومثقلاً بالمثيولوجيا، يحيط كل شيء بهالة من القداسة تكبح الخيال.. والإبداع فيه يتوقف عند حدود مقص الرقيب الذي يمارس فعله بعقلية القيِّم.. لذلك، ومع تعاظم قوة الإسلام السياسي تراجع الفن، وصار ينظر للأدب بوصفه تجرؤا على المقدس، والإبداع ضلالة، والعلوم شرك بالله، والجمال فضح للعورات.
«سيد قطب»، كان أديبا مرهفا وشفافا قبل أن ينضم للإخوان، الفنانون والفنانات بمجرد تدينهم «وتوبتهم» يعتزلون الفن، كما لو أنهم عاجزون عن المواءمة بين التدين والفن، وفي كثير من الحالات شنَّ الإسلاميون هجوما عنيفا على مثقفين ومبدعين ومفكرين، بتهمة تطاولهم على الدين، أو اقترابهم من المحرم.. وإذا استثنينا نماذج طالبان والقاعدة وداعش والنصرة التي حرمت كل أنواع الفنون والآداب، سنجد أنه حتى الجماعات الموصوفة بالمعتدلة (الإخوان مثلا) إما أنهم قبلوا بالفن والأدب ولكن بشروطهم، أو تعايشوا معه على مضض، لكنهم لم ينتجوا أدبا وفنا خاصا بهم.. ولو أخذنا مثال حماس، سنصل لحقائق صادمة؛ هي أنها لم تنتج أي نوع من الأدب والفنون، بل إنها لم تقدم أي فكر سياسي (بما في ذلك الفكر السياسي الإسلامي).
ولو أخذنا الحالة الفلسطينية مثالا آخر، سنصل إلى حقيقة دامغة ومفزعة في آن.. هي أن جميع الأسماء اللامعة في مجالات الفن والأدب بكل أشكالها وتنويعاتها لا ينتمي أيٌ منها لأي تيار من الإسلام السياسي.. بدءاً من بدايات القرن العشرين، وحتى يومنا هذا.. والأمر ينسحب على لبنان وسورية ومصر والعراق والمغرب العربي.. كل من أبدعوا في الشعر والرواية والمسرح والغناء والسينما والتمثيل والنحت والرسم.. جميعهم تقريبا لا ينتمون للإسلام السياسي..
الأدب حتى يكون مبدعا، يشترط الحرية.. وللأسف، نماذج الإسلام السياسي المعاصرة لم تشكل بيئة حاضنة أو مشجعة للأدب والإبداع.. هذا إذا لم تحاربها أصلا.