بعد أن قامت الولايات المتحدة بصورة متعجلة بتوجيه الضربة الصاروخية للقاعدة العسكرية السورية دخلت الحرب في سورية وعليها مرحلة جديدة يمكن وصفها بمرحلة الحالة الرمادية.
رمادية لأن الولايات المتحدة عادت لنغمة الحديث عن بناء النظام من عدمه بعد ان كانت قد «أكدت» على أن هذه المسألة «لم تعد» أولوية سياسة الولايات المتحدة هناك، وبعد أن كانت «تصوّر» العلاقة مع روسيا باعتبارها علاقة تحالف طبيعي ضد الإرهاب، وكانت إيران والموقف منها هي «العقدة» التي تبدو خارج سياق التوجهات الأميركية على الساحة السورية.
مع توجيه الضربة الصاروخية عادت الأمور إلى «منطق» أكثر تماسكاً، إذ تبين أن الولايات المتحدة ليست جادة في مسألة «عدم أولوية» التصدي للنظام، كما أنها ليست جادة على الإطلاق في مسألة العلاقة الطبيعية مع روسيا في مواجهة الإرهاب.
لقد بات ثابتاً الآن أن تلك الضربة كانت بداية تغيرات كبيرة عن المواقف المعلنة حتى حينه، كما بات ثابتاً، أيضاً، أن الولايات المتحدة ومعها معظم المواقف الأوروبية لم تنتظر أي نوع من التحقيق، وتعمدت توجيه الضربة لكي تأخذ التوجهات «الجديدة» طريقها إلى فرض الوقائع الجديدة التي تعكس حقيقة الخطط التي تعدها للبلاد السورية.
في الواقع تحتاج الولايات المتحدة لتنفيذ خططها في سورية إلى «التوفيق» بين عدة متناقضات كبيرة وتعارضات وتضاربات في المصالح تكفي لفشل ذريع ومدوٍ إذا أفلتت من يد الولايات المتحدة واحدة فقط من هذه التناقضات.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، إذا افلتت من يدها ورقة الأكراد واصطدمت بالمواقف التركية، فإن كامل السياسة الأميركية في هذا البلد ستنهار بسرعة قياسية وقد يكون لهذا الانهيار تداعيات خطيرة للغاية على مجمل الخارطة وتموضع القوى فيها.
وإذا ما اصطدمت الخطط الأميركية بالمصالح المباشرة لروسيا، وخصوصاً تحييد القواعد البحرية والبرية والجوية للروس، فإن الرد الروسي لن يكون بحجم هذه المحاولات للتحييد. ومن المؤكد أن الروس هنا سيقدمون على خطوات أكبر بكثير من حالة التروي والهدوء التي يتعاملوا بها حتى الآن على كل الاختراقات الأميركية لبعض «التفاهمات» التي كانت «مفهومة» ضمناً بين البلدين.
أما الجانب الإيراني وبحكم معرفتهم التامة بكل التوجهات الغربية للحفاظ على معادلة الاتفاق النووي، الا أن الغرب الأوروبي ليس طرفاً مثابراً في الدفاع عن الاتفاق وقد ينجرف بعض الأوروبيين وراء الرئيس ترامب للاخلال بهذا الاتفاق وبالمعادلة التي حاول الاتفاق تثبيتها بين الغرب وإيران.
أما النظام السوري فإنه بُعيد الضربة أصبح يفكر بصورة مختلفة عن تفكيره قبل الضربة.
أغلب الظن هنا أن النظام بات يخشى على نفسه من زيادة التواجد الأميركي إلى حدود «القدرة» على فرض نوع من التقسيم «المؤقت» وتحول هذا التقسيم إلى أداة لابتزاز النظام ومحاولة إخضاعه لشروط جديدة «تجرده» من مكامن التفرد التي باتت لديه بعد أن حقق الكثير منها منذ معركة حلب وحتى يومنا هذا.
وكذلك فإن النظام بات على قناعة بأن الجانب الإسرائيلي يقف بانتظار «اللحظة» المناسبة للتدخل السافر والمباشر إذا تغيرت المعادلة بصورة استراتيجية لصالح النظام، وحينها فإن «الضوابط» الغربية العامة للمعادلة السورية يمكن أن تخرج إلى ما أبعد وأخطر من التوازنات القائمة حتى الآن.
فهل يمكن للولايات المتحدة، أن تتمكن من السيطرة على كل هذه التعارضات وان تتحكم بكل اطراف هذا التشابك القائم، وهذه الدرجة من حساسية التضارب في المصالح بين الأطراف المشاركة في هذا الواقع؟
أغلب الظن أن الولايات المتحدة ستفشل في الإمساك بكل خيوط هذه المعادلة، كما أن من المرجح للغاية أن «تتمرد» بعض الحلقات سريعاً لكي يكون هذا التمرد إنذاراً بتمردات أكبر وبانفراط «مسبحة» الولايات المتحدة للحالة السورية.
وحتى لو تمكنت الولايات المتحدة من الإمساك إلى حين بهذه الخارطة المتشابكة فإن باستطاعة أي طرف أن يحدث اختلالات كبيرة قد تصل إلى تهديد كل الخطط الأميركية.
أما ميزة الواقع القائم في سورية اليوم فهي أن الفرز القادم فيها سيكون على أعلى درجات الوضوح.
فإما معركة جادة ضد الإرهاب وهي مستحيلة من دون مشاركة النظام ومن دون مشاركة فاعلة فيها للروس وللإيرانيين، وإما تأجيل المعركة ضد الإرهاب أو التغاضي عنها لحسم المعركة ضد «قوة» النظام أولاً. هنا تجد الولايات المتحدة الحلفاء العرب والأتراك إلى جانبها، كما تجد إسرائيل جاهزة «للمساهمة» النشطة فيها.
هنا بالذات تكمن المشكلة، فالروس يريدون من مناطق تخفيف التوتر توجيه الأمور باتجاه معركة مواجهة الإرهاب، في حين تريد الولايات المتحدة في هذه المناطق مدخلاً مباشراً لوضع البلاد على أعتاب التقسيم.
وبين خطة الولايات المتحدة وخطة الروس وحلفائهم توجد مساحة مشتركة لكنها صغيرة وقابلة للتقلص بسرعة، وقد تتحول إلى مجرد توطئة للمواجهات الكبرى القادمة.
لا يوجد ما يوحي بتراجع الروس عن خوض معركة مصيرية في سورية، ولا يوجد ما يوحي بتراجع إيران والنظام عن خوضها، في حين يوجد ما يكفي من المؤشرات أن الولايات المتحدة ليست جاهزة لخوضها حتى النهاية، وهذا هو الفرق الأهم.
وفي مطلق الأحوال فقد فقدت الولايات المتحدة زمام المبادرة منذ عدة أعوام في الساحة السورية، وهي تطمح اليوم لاستعادتها بسرعة ومن خلال «ضربة» عسكرية واحدة، وهو الأمر المشكوك فيه تماماً، لأن دوراً جديداً من هذا النوع يحتاج إلى عناصر الزمن الذي مرّ على موقع الولايات المتحدة على الساحة السورية، واستعادة المساحة الضائعة ليس بالسرعة التي يراها الرئيس الأميركي ترامب.