يعبر الرئيس دونالد ترامب أخطر مراحل رئاسته على الصعيد الداخلي، إذ تلاحقه الاتهامات بعرقلة التحقيقات الفيديرالية في علاقات مشبوهة مع روسيا، وتطارده حملات تصنّفه غير مؤهل للرئاسة، وتتأهب له جهات قوية تهيئ الملفات لمحاسبته بهدف عزله بتهمة الاستهانة بالأمن القومي وعرقلة التحقيق والعدالة. هذا محلياً حيث في رئاسة ترامب ثقوب تهدد مصيره وتعكس استياءً شعبياً من انزلاقه تكراراً إلى الاعتباطية وزج نفسه في سجال تلو الآخر مع الإعلام والاستخبارات. أما على صعيد علاقاته مع الخارج، فيجد دونالد ترامب نفسه مرشحاً لعملية إنقاذٍ له عبر قمة الرياض التي تحشد القيادات العربية والإسلامية، لإبراز الاستعداد العملي والملموس لإطلاق شراكة تضع المسلمين في الخط الأول من جبهة نظام عالمي جديد ضد إرهاب المسلمين المتطرفين، تقوده الولايات المتحدة الأميركية. هذه الزيارة الأولى لدونالد ترامب إلى الخارج منذ توليه الرئاسة، ستشمل السعودية وإسرائيل والفاتيكان بدلالات دينية وسياسية مهمة. إنها زيارة عمل يتم الإعداد الدقيق لكل محطة منها، بدءاً بالرياض حيث ستعقد ثلاث قمم متتالية: أميركية- سعودية، وأميركية- خليجية مع الدول الست في مجلس التعاون الخليجي، وقمة تجمع الرئيس الأميركي بقادة دول عربية وإسلامية. هذه القمم ليست مهرجاناً احتفائياً ولا هي لقاءات رمزية، إنها ورشة عمل لنظام عالمي جديد ضد الإرهاب يدشنه دونالد ترامب عام 2017 كما كان الرئيس الأميركي السابق هاري ترومان دشن النظام العالمي الجديد ضد الشيوعية عام 1948. فإذا أسفرت قمة الرياض عن إطلاق هذا النظام بتعهدات عملية لا تقتصر على المشاركة في العبء المالي والبيانات السياسية، قد تكون الرياض البوابة الخارجية لإنقاذ ترامب مما تتربص له الساحة الأميركية الداخلية. وإذا تلقى ترامب في الرياض انفتاحاً عربياً وإسلامياً على مقاربة تعدّل عملياً المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل، قد تساعده المحطة الثانية من جولته في انتشال نفسه من تلك الدوامة الخطيرة التي تهدد مصير رئاسته بسبب العلاقات مع روسيا.
لافت دخول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حلبة السجالات والتسريبات والاتهامات في شأن إقدام الرئيس دونالد ترامب على تقديم «معلومات سرية» لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال لقائهما في واشنطن الأسبوع الماضي، إذ هاجم بوتين «أوساطاً أميركية» قال إنها تعاني «فصاماً سياسياً»، وإن الذين «يفبركون هذه الاتهامات، إما أغبياء أو يشكلون خطراً جدياً ويلحقون ضرراً بالولايات المتحدة»، وإن موسكو لا بد من أن تشعر بالقلق إزاء مشاهدة «الصراعات الأميركية الداخلية تتغذى على تأجيج العداء لروسيا».
الرئيس بوتين محق في قلقه من ازدياد الشكوك الأميركية بروسيا المتهمة في البداية بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية لترجيح كفة ترامب، ثم باختراق رجال في حملة ترامب مقربين جداً منه مثل مايكل فلين الذي عيّنه ترامب في منصب مستشار الأمن القومي قبل إقالته، بعدما تبيّن أنه كذب وأنه تحت طائلة التحقيق الفيديرالي. فالمسألة تتعلق بالأمن القومي الأميركي الذي لا يستهين به الأميركيون، والرسالة من واشنطن الرسمية والإعلامية إلى الكرملين هي أن روسيا تُعَدّ في مرتبة العداء، طالما تخترق الولايات المتحدة أمنياً وانتخابياً.
الرسالة الأهم موجهة إلى دونالد ترامب وفحواها أن المؤسسة الاستخبارية ومكتب التحقيق الفيديرالي والإعلام لن يصمتوا على تجاوزات أو هفوات تسفر عن تهديد طبيعة الحكم في أميركا القائم على ما يسمى Checks and balances والذي هو عصب الديموقراطية التي تعطي هذه المؤسسات حق الاستفسار والمحاسبة. إقالة الرئيس دونالد ترامب مدير مكتب التحقيقات الفيديرالية (أف بي آي) جايمس كومي أججت الشكوك والاعتراضات، لا سيما بعدما زعم كومي أن ترامب طلب منه إنهاء التحقيق في اتصالات مايكل فلين مع روسيا، وفق ما ذكرت «نيويورك تايمز»، كلمحة إلى أن اتخاذ قرار إقالته أتى نتيجة معارضة كومي هذا الطلب. فمكتب التحقيقات الفيديرالي يُفترض أن يكون خارج السياسات والأحزاب وفوقهما، ويجب أن يتمتع باستقلالية يحترمها الرئيس والكونغرس. مايكل فلين هو أحد أسباب الوقيعة بين دونالد ترامب والـ «أف بي آي»، ذلك أن ما يشكك فيه بعض الأميركيين ويزعمونه هو أن العلاقات المشبوهة تطاول الرئيس ترامب وليس رجاله فقط.
الرئيس ترامب عند ترحيبه بتعيين وزارة العدل الأميركية محققاً مستقلاً في التدخل الروسي المدير السابق لـ «أف بي آي» روبرت مولر، علّق قائلاً: «كما قلت مراراً، إن تحقيقاً شاملاً سيؤكد ما نعرفه بالفعل: ليس هناك أي تواطؤ بين فريق حملتي وبين جهة أجنبية». الذين لا يصدقون ذلك يتهمون ترامب بإعاقة التحقيق.
القادة الذين سيستقبلون الرئيس دونالد ترامب في الرياض يعون جيداً ماذا يحدث له في الساحة الأميركية الداخلية، إنما ذلك لا يؤثر في قرار الاستثمار في الرئيس الأميركي الذي يأتيهم بجديد مختلف عن استدارة سلفه باراك أوباما نحو إيران، مبتعداً من العلاقات الأميركية مع الحلفاء التقليديين.
الآن، أتت استدارة دونالد ترامب منذ حملته الانتخابية على صعيدين: أولاً، إعادة الدور الأميركي والالتزامات والضمانات الأمنية الأميركية إلى المنطقة العربية عبر البوابة الخليجية، وبالذات السعودية، ليطمئن إلى أن الولايات المتحدة لم تعد في أحضان إيران، كما كان الانطباع الخليجي أثناء حكم أوباما. ثانياً، دونالد ترامب المرشح للرئاسة أطلق حملة ضد المسلمين اعتبرها العالم الإسلامي رسالة عداء قاطع لا عودة عنه، إنما ها هو ترامب الرئيس يستدير نحو الإسلام مميزاً بين الإسلام المعتدل وبين «الإرهاب الأصولي» ويقوم بصنع ائتلاف مع المسلمين لمحاربة هذا الإرهاب.
قد تضع القمة العربية- الأميركية- الإسلامية في الرياض آليات لهذا الائتلاف بهدف القضاء على «داعش» وأمثاله في معارك آنية في سورية والعراق، بالذات في الرقة والموصل. لكن ذلك الائتلاف له أهداف أوسع، لأن الإرهاب أكبر من التوقف عند «داعش». آليات الائتلاف لمواجهة أصابع إيران الممتدة في الأراضي العربية موضوع آخر مهم في محادثات قمة الرياض، بعدما اتخذت إدارة ترامب قرار قطع الطريق على الامتدادات الإيرانية في الأراضي العربية، ليس بوسائل المواجهة العسكرية مع طهران، إنما بوسائل أخرى متاحة.
على صعيد القمة الثنائية بين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس الأميركي دونالد ترامب، هناك قواعد جديدة لهذه العلاقة الأساسية للطرفين. فالسعودية «لم تعد الدولة الهادئة»، كما قال أحد المخضرمين الخليجيين، بل باتت «دولة استباقية» تتبنى الإقدام والمبادرة وهي اليوم تعيد صوغ نفسها سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً وأمنياً لتنفيذ رؤية 2030. القمة الثنائية ستكون أيضاً على مستوى رؤساء الشركات الكبرى، الأميركية والسعودية، في قمة عمل تعمّدت السعودية الطلب من لبنى العليان أن تشارك في رئاستها إبرازاً للانفتاح على حقوق المرأة في العمل. هذه القمة سترسخ الترابط الاقتصادي المستقبلي في نوع من زواج المصالح بين القطاع الخاص، الأميركي والسعودي، مما قد ينعكس إيجاباً على الرئيس الأميركي ويساعده في ساحته الداخلية.
بالنسبة إلى القمة الأميركية - الخليجية، واضح أن دول مجلس التعاون تتصرف على سكتين أمنيتين، إحداهما ثنائية مع الولايات المتحدة على نسق اتفاق للتعاون الدفاعي الأخير بين الولايات المتحدة ودولة الإمارات. السكة الأخرى هي سكة التعاون الأمني عبر مجلس التعاون الذي يضم السعودية والإمارات وقطر والكويت وعمان والبحرين. مواقف هذه الدول ليست دائماً متطابقة. الإمارات مثلاً ناشطة في ملفات ليبيا واليمن امتداداً إلى الصومال. قطر، كمثل آخر، تركز على السودان والصومال وليبيا وسورية. عُمان مهتمة بالعلاقات الحسنة مع إيران. السعودية لديها الأولوية اليمنية تليها سورية والسودان. وهكذا.
العلاقة المتوترة بين الرئيس الأميركي وأركانٍ مهمين في حكم المؤسسة Establishment تقلق القيادات الخليجية، لكنها لا تثنيها عن قرارها بالرهان على دونالد ترامب. هذه الدول اعتادت أنماط التغيير وعدم الثبات في العلاقات مع الولايات المتحدة عبر شتى الإدارات، وهي قررت أن لا خيار آخر أمامها الآن سوى الاستثمار في رئاسة دونالد ترامب، على رغم قلقها على مصيره داخلياً.
المغامرة في الاتجاهين. السؤال من جهة هو حول ما إذا كان المسلمون جاهزين حقاً لدفع كلفة باهظة للائتلاف المنشود وما هي ضمانات قدرتهم على الاستمرار في تحالف الامتداد الإسلامي والتصدي لإرهاب الأصوليين. ومن جهة أخرى، إن السؤال يطرح حول قدرات الرئيس الأميركي ليس فقط على البقاء وإنما أيضاً على إقناع الرأي العام الأميركي بالنظام العالمي الجديد الذي يحشده والذي له أيضاً كلفة أميركية.
الملك سلمان استطاع عبر الحزم والتصميم على مقاومة الإرهاب صياغة تحالفات مهمة للتصدي للإرهاب، وصولاً إلى التحالف مع الولايات المتحدة. هذا إنجاز لم يحققه باراك أوباما. دونالد ترامب سيميّز قممه الثلاث في الرياض. الامتحان هو في بؤر التوتر المشتعلة مثل سورية واليمن والعراق وليبيا، وكذلك في الملفات المستعصية مثل فلسطين. الامتحان الأهم لدونالد ترامب هو في الداخل الأميركي، لكن الخارج، هذه المرة، قد يمد إلى الرئيس الأميركي شبكة النجاة.
عن الحياة اللندنية